رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

براءة فتاة العياط.. إنذار للذئاب البشرية


لا أعرف فتاة العياط.. ولم أذهب يومًا إلى مدينة العياط نفسها، ولكنى شعرت براحة كبرى بعد قرار النائب العام المستشار حمادة الصاوى، بتبرئة ساحتها أمام المجتمع، حيث تضمن قراره أنه لا وجه لإقامة الدعوى فى واقعة قتل الشاب الذى حاول اغتصابها، تحت التهديد بسكين، لأنها كانت «فى حالة دفاع شرعى عن النفس».
قلت بينى وبين نفسى: «يحيا العدل.. وتحيا العدالة الناجزة»، فقد حسم قرار النائب العام جدلًا طويلًا حول هذه القضية، استمر أكثر من ثلاثة أشهر، حيث حبست الفتاة وتم تجديد حبسها وسط ضجيج إعلامى، وآخر موازٍ على صفحات مواقع السوشيال ميديا، وكنت- مع آلاف غيرى- أتخوف من المحاكمات البطيئة، التى يمكن أن تطيل أمد حسم القضية شهورًا طويلة وربما سنوات، حيث يصدر فى النهاية حكم بالبراءة، يفشل فى أن يزيل مرارة الحبس لشهور طويلة لهذه البريئة، ولا شك أن أحد أهداف القضاء العادل هو تحقيق عنصر الردع المجتمعى، وهو أمر لا يتحقق بالصورة المطلوبة مع تأخر حسم القضية سنوات عدة.
من زاوية إنسانية وصحفية أيضًا- وليست قانونية- أقول إن قرار البراءة الذى أصدره النائب العام، أراحنى وأراح الملايين لعدة أسباب أستطيع أن أوجزها على النحو التالى:
- أنه برأ من تستحق البراءة، وأدان من يستحق الإدانة، ويكفى أن المتهم الحقيقى دفع حياته ثمنًا لرغبته فى الاغتصاب، التى كانت مع سبق الإصرار والترصد، فقد أعد خطته وساق ضحيته لمكان ناءٍ وهددها بسكين، ولم يكن مستبعدًا أن يقتلها بنفس السكين بعد الانتهاء من اغتصابها، وكم من جرائم الاغتصاب والاعتداء على العرض التى انتهت بالقتل مؤخرًا، خوفًا من الفضيحة بعد اكتشاف الجريمة، فقد قرأنا عن الطفلة التى ألقيت من سطح البيت بعد اغتصابها، وعن أخرى قتلت فى إحدى المزارع لنفس السبب.
- وعطفًا على ما سبق فإن القرار لم ينصف الضحية فقط، بل حال دون وقوع جريمة أخرى، وهى إزهاق الروح.
- هذا الحسم حال دون أن تصبح الفتاة التى دافعت عن شرفها مضغة فى الأفواه، فكلنا نعرف كيف يتفنن «بعض المحامين» فى هذه القضايا فى إهالة التراب على الضحايا، فى محاولة للتأثير على عقيدة المحكمة، والإيحاء بأن الفتاة هى السبب بسبب سوء سلوكها، وكم من شاهد زور يمكن جلبه فى محاولة الدفاع عن المتهم، وتخفيف العقوبة عنه، وهناك قضايا تمكن المجرمون فيها من الحصول على أحكام مخففة، مثل قضية عامل المسجد الذى هتك عرض فتاة داخل بيت من بيوت الله، وقضت محكمة الجنايات بحبسه سنة واحدة.
- إن هذا القرار سيعد حجة يستند عليها رجال النيابة العامة الموقرة، عندما يواجهون حوادث مماثلة، فبمجرد أن يطمئن ضميرهم من خلال التحقيق المفصل، أن الفتاة التى قتلت «ذئبًا» حاول اغتصابها تحت التهديد، فإنه يمكنهم أن يقرروا بأنه لا وجه لتحريك الدعوى على اعتبار أنها فى حالة دفاع شرعى عن النفس، وهو أمر تباركه شريعة السماء، قبل أن تؤيده شرائع الأرض.. وهو ما سيحقق عامل ردع كبيرًا لكل من تسول له نفسه باختطاف أو اغتصاب فتاة، خاصة من بين الذين يتعاطون الأنواع الجديدة من المخدرات والأقراص المخدرة، التى توقف عقولهم وتوقظ فقط غرائزهم.
أنا ضد جرائم الاغتصاب أيًا كانت دوافعها، لأنها تسلب الضحية إنسانيتها وسلامها النفسى، وليس فقط شرفها وعفتها، وفى كثير من الأحيان قد تشكل هذه الجريمة حاجزًا نفسيًا أمام الضحية تحول بينها وبين أن تعيش حياة طبيعية كزوجة وأم، خاصة إذا أهدرت البقية الباقية من كرامتها، وهى فى قفص الاتهام، بسبب ألاعيب «بعض المحامين» الذين لا يتوانون عن قتل الضحايا معنويًا، من أجل الحصول على أتعاب كبيرة من أسر المتهمين «الذئاب».
ولهذا كله فإن قرار النائب العام- فى اعتقادى- هو بمثابة إنذار شديد اللهجة للذئاب البشرية، التى تحوم حول ضحاياها وتتحين الفرصة لافتراسها دون أى وازعٍ من الضمير، ودون اكتراث بالعواقب الوخيمة، إنه قرار يمنح الضحية حقها الشرعى السماوى، بأن تدافع عن نفسها وعن شرفها حتى النهاية، وهذا هو العدل الذى ننشده جميعًا، فلا بد أن يدرك كل من يشرع فى ارتكاب هذه الجريمة النكراء أنه لن يفلت، وأن دمه سيذهب هباء وبلا ثمن، من أجل لحظة لن تدوم طويلًا.
وإحقاقًا للحق فيجب أن نعترف بأن آراء الناس التى نشرت فى مواقع التواصل، حول هذه الجريمة كان لها دور كبير فى التمهيد لهذه الخطوة العظيمة من النائب العام، فقد عبر الكثيرون عن غضبهم ورفضهم تلك الحجج الواهية التى تثار مع كل واقعة تحرش واغتصاب، والتى تتهم الضحية بأنها كانت سببًا فى ارتكاب الجريمة، إما بسبب ملابسها غير المحتشمة- من وجهة نظر البعض- أو بسبب خروجها فى وقت متأخر، دون تبصر وإدراك أن طبيعة عملها هى التى حتمت عليها ذلك، أو لأنها كانت تسير متأبطة ذراع خطيبها أو شخص تحبه.. وهى مبررات تثير الغضب وتكشف مدى الازدواجية الرهيبة فى مفاهيم «البعض» الإيمانية والأخلاقية. فحتى لو كانت الفتاة - من وجهة نظر بعض مدعى الفضيلة- ترتدى ملابس كاشفة أو مثيرة، أو أنها تتدلل بصورة غير لائقة أو كانت مخطئة بشكل لا يقبل الجدل، فلا يمكن لمدعى الفضيلة الجزم بأن أفضل طريقة لعقابها وتقويمها هو اغتصابها، فلا يمكن أن نصوب الخطأ بجريمة لا تغتفر، خاصة أن الفضيلة- وكذلك الأخلاق- أشياء لا تجتزأ.