رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيرة الغريب.. حكايات عن الوجه الصوفي لأحمد زكي

أحمد زكي
أحمد زكي


كان يعرف أنه سيموت قريبًا.
وقرَّر أن يتأقلم مع النهاية التى يعرفها منذ اليوم الأول فى حياته، وهو الوحيد الذى يسمع هتافات الرومانسيين بأن «الموت قرار»، ويعاجلهم بتأكيده أنه لو كان قرارًا لاختار أن يعيش للأبد، لكن النهاية السريعة مصير حتمى لأمثاله، الذين يعشقون الحياة.
٣٠ سنة قضاها باحثًا عن فرصة، ودارت الكاميرات تسجل آلاف المشاهد من حياته حتى لقطته الأخيرة حين خرج جثمانه من مسجد مصطفى محمود وسط آلاف الدراويش والمريدين، فى الميدان والشوارع المحيطة به، فوق الأشجار وأعمدة النور وأسطح الأتوبيسات والعمارات، يهتفون: «لا إله إلا الله.. أحمد زكى حبيب الله».
لم يكن الرجل متدينًا يومًا ما، لكن الناس منحوه لقب «حبيب الله» الذى يستحقه كل من دلَّه قلبه إلى الطريق، فلم يحسبها كثيرًا، وعاش صعلوكًا ثريًا يحاول أن ينزل السكينة فى قلوب مَنْ استلهم منهم سلامه النفسى.
ودارت حياته بين ٣ كلمات سر.. لم يهجرها، فضمنت له ألا ننساه حتى الآن.




نتيجة بحث الصور عن احمد زكى مستر كاراتيه

كن لطيفًا.. ولو مع الكلاب


يحكى إبراهيم نصر أن زكى دعاه إلى العشاء خلال تصوير فيلم «مستر كاراتيه» فى مطعم شهير بالزمالك، وحين انتهى من تناول طعامه، رأى عاملًا يضرب كلبًا بعصا حتى يبتعد عن الباب، فانفعل و«عمل أوردر للكلب»، وطلب من موظفى المطعم أن يعاملوه كـ«زبون»: «هات له لحمة فى نفس أطباق الزبائن، وشوكة وسكينة، وزوِّد السلطات.. وأنا هادفع حسابه».
كان زكى، طوال الوقت، يؤدى للجميع ما كان يتمناه وهو طفل، وبدلًا من أن يكبر رجلًا قاسيًا يرد للعالم ضرباته التى لم ترفق به فى صغره، قرر ألّا يكون «رد فعل» تافهًا ينتقم ممَّن أهملوه على جثة كائنات ضعيفة الحيلة تترجَّى قوته.
لنعد إلى الوراء قليلًا.

نتيجة بحث الصور عن احمد زكى كابوريا
٧٠ عامًا.
كان زكى متولى بدرى شابًا متدينًا أصيلًا، مستورًا، يبحث عن زوجة صالحة فهداه الله إلى رتيبة، أنجب منها صباح، التى ماتت بالحمَّى، فجاء سريعًا الطفل المنتظر كى يداوى جرح والديه، فأسموه أحمد، حبًا فى سيدى أحمد الرفاعى، الولى الصالح، لعله ينال محبة الناس له فى يوم من الأيام.
كان زكى «الأب» خفيفًا، غادر الحياة بسرعة، قبل أن يكمل الطفل عامين، بينما تعانى الأم إلحاح الجميع بأن تتزوَّج لأنها «صبية صغيرة»، فتتزوّج ويعيش أحمد مع جدته، ويراها لأول مرة حين يكمل سبع سنوات.
وحين ماتت جدته «ألمظ» عاش غريبًا: «انتقلت إلى عدد من بيوت العائلة.. وكان إحساسى واحدًا.. كانوا مهتمين بى (اهتمام مغلق بالشفقة) لأننى يتيم، فأنا غريب ويتيم، والجميع يوصون بعضهم بى (محدش يزعّل أحمد، ده يتيم).. وحين أنجح، يقولون (مبروك) بدون مشاعر، ولمَّا أسقط (معلش، تنجح السنة الجاية). عكس ما كانوا يفعلون مع أولادهم تمامًا». قرَّر أحمد أن يعتزل الناس. انعزل بسبب «المشاعر الباردة» التى تغلف جميع علاقاته. يرفض أى مساعدة، ويهرب من المشاعر التى لا يشعر بصدقها، ولا يستلطف النظرات الحزينة التى تحاصره من أهله حين فهم مبكرًا أنها ليست نظرات حب إنما «شفقة» على يتيم سيعيش متعبًا، ويموت وحيدًا: «كنت طفلًا منطويًا، أراقب العالم فى صمت من ركنى المهجور، أتابع الابتسامات والضحكات، الخارجة من القلب والمفتعلة، ولحظات الغضب، الألم والقهر.. لم أميّزها وأنا صغير، لكن جميعها انطبعت فى ذهنى ولم تفارقنى أبدًا».
فى جحيم المشاعر المزيّفة، يتقن أحمد العزلة ويفرضها على نفسه بقسوة، يدخل المدرسة ويواجه الحياة بحسن نية، معتبرًا الحياة إمّا أبيض أو أسود، خير أو شر، لم يكن وقتها اكتسب خبرة اللون الرمادى، فتلقى «الخوازيق» باستمرار على مرأى من مدرسيه وأعمامه وخالاته: «كنت أصدق كل شىء بسهولة وأتوقع الخير فأصدم بالشرّ».. لكنه، بالوقت والصَنْعة، عالج ضمور حاسته السادسة، فتوقف عن توقع الأشياء الجميلة من الناس: «أنتظر الشر دائمًا لحماية نفسى من الصدمات، خوفًا من مزيد من الوجع والألم حتى إذا أتى العكس.. أفرح».

ستموت قريبًا.. فاصنع المُلْك الآن

هذه القدرة الفائقة على توقع الخير، وانتظاره بأقل قدر من «سوء النية» فى «عفريت معجون بمياه نار»، مثل عادل إمام، جعلته يتوقع طوال الوقت أن يكون صاحبه، فيقابله عادل بعشرات المقالب، وبمجرد أن يصفو له قلب أحمد، يلعب بمشاعره.
طيش شباب، وخفة دم، وطاقة شر متفجرة عانى منها عادل إمام منذ أن كان طفلًا شقيًا يحكى عن مقالبه فى حى الخليفة، انتقلت معه إلى المسرح، وكان زكى صيدًا سهلًا ومضحكًا يمكن أن يتدرّب عليه مع رفيقه سعيد صالح. فى كواليس «مدرسة المشاغبين»، يتصل به أحدهما، ويقول: «آلو، أنا رمسيس نجيب، إزيك يا أحمد؟.. أنا جاى لك دلوقتى، وعايز أوقع معك عقد فيلم جديد».. ثم يدق باب الغرفة: افتح يا أحمد.. أنا رمسيس نجيب.
يفتح أحمد «باب النجومية» ليجدَ سعيد أو عادل.. اللذين وضعاه- بشقاوة الشباب- فى جحيم اليُتْم والعُزلة كى يضمنا كسرته التى يمكن أن تمنع أى وجه مبشِّر من حجز مكان بين نجوم الصف الأول.
وفى ليلة زفاف رامى إمام، حضر زكى ليجامل زميله القديم، رغم ميراث ضخم من الحقد والحسد الفنى، ومعارك على أفلام لم تنجح فى شباك التذاكر- لكن عادل رأى أنها «ستعيش طويلًا» أكثر من أفلامه الكوميدية- فاستقبله عادل إمام، وهو يعرف أنه يتشاءم من سيرة الموت ويتوقع أن يموت صغيرًا، وقال له: «شفت يا أحمد، خلاص هنموت، كبرنا وبنجوز العيال، وشكلك هتموت قريب، وأنا عجزت وهموت أنا كمان».

يكره أحمد زكى أى كلام عن النهاية، نهايته أو نهاية غيره، فردّ: «ربنا يديك الصحة يا عادل.. إحنا لسه شباب».
يروى أحمد ما جرى: «يقوم لافف وجاى لى فى حتة تانية ويقول لى: خلاص هنموت يا أحمد، ويلا حسن الختام.. ويلف ويرجع مرة تانية ويقول: جوزنا العيال وبقينا عواجيز وخلاص علينا كده يا أحمد.. ويكرر فى مناسبة أخرى: ياه الأيام بتجرى، وهنموت يا أحمد هنموت».
غضب زكى، وغادر الحفل هربًا من سيرة الموت التى طارده بها عادل إمام، رغم أن أحمد كان يعتقد أن أفلامه ستعيش أكثر.. البرىء والهروب وزوجة رجل مهم تستحق أن تعيش عمرًا أطول من الهلفوت ورجب فوق صفيح ساخن والمتسول.
من كراهية أحمد للموت، اكتشف مرضه الذى أنهى حياته.
وسواسه القهرى كان يدفعه إلى الشك فى أى عَرَض عابر يمكن أن ينتهى بـ«إسبرينة»، وحين كان يشكو من ألم فى قدميه وآخر فى صدره، اشتكى إلى طبيبه من عدم تناسق الألميْن: «شخّصت الحالة بالتهاب رئوى ونصحته باستشارة طبيب متخصص فى الصدر واقترحت عمل تحليل خلايا للاطمئنان فقط»، وفق طبيبه الدكتور حسن البنا.
وقبل خروج أحمد من المستشفى فوجئ البنا بصوت حزين يتصل به: «هناك خلايا سرطانية فى العينة». ويقول الطبيب إنه «لولا وسوسة أحمد زكى لما اكتشفنا مرضه الحقيقى مبكرًا».
ولأنه كان يتوقع الموت فى أى لحظة، فجهَّز ذخيرة ثقيلة من أفكار الأفلام الجاهزة. اعتبرها مشروعه الفنى الذى سيلازمه ويحمل اسمه بعد الموت، وكان مستعدًا لتمثيل فيلمين أو ثلاثة فى وقت واحد، رغم مرضه وإرهاقه الشديد.
طلب سيناريو فيلم عن الشيخ متولى الشعراوى، وعهد به إلى المنتج حسين القلا، وزار الشعراوى وعقد معه عدّة جلسات عمل وحصل منه على مجموعة صور خاصة لبعض مراحل حياته، لأن حياة الشيخ وجمهوره ودراويشه كانوا ظاهرة مدهشة- فى رأى زكى- فأصبح الفيلم حلمًا من أحلامه لا يقل عن تجسيد شخصية حسنى مبارك، صاحب الضربة الجوية الأولى، وتلاقى «المشروع السينمائى الوطنى الذى يحكى سير الزعماء والرؤساء والأبطال»، الذى حلم بصناعته بعد تجسيد شخصيتى عبدالناصر والسادات، مع مشروع لدى التليفزيون المصرى يهدف إلى تناول درامى لسير شخصيات مصرية مؤثرة، مثل رفاعة الطهطاوى وعباس العقاد ونجيب محفوظ وعرابى ومصطفى كامل وأسماء أخرى اطّلع عليها أحمد، وكان يحلم بالفوز ببطولة هذا المشروع، الذى كان منتظرًا أن يجسّد فيه ٦٠ شخصية من تاريخ مصر. وبالفعل، عقد جلسات لاختيار كتاب ومخرجين، وكلف بعضهم بالبدء فى الأعمال، لكن الموت كان أسرع منه.
لم يمنحه الموت فرصة صناعة فيلم عن الهَوَس الدينى، دوّنه فى نوتة أفكاره، وبدأ يبحث عن منتج يموله: «دور (فقى) يقرأ القرآن فى المقابر، لكنه يكذب ويسرق ويرافق النساء، شخصية مليئة بالتناقضات». عرض الفكرة على أكثر من سيناريست، لكن أحدهم لم يقدم له «ورق فيلم» بالمستوى الذى يريده.


افعل كل شىء كأنه آخر يوم فى حياتك

كان يعرف أنه منتج فاشل، يندمج مع الشخصية التى يقدمها وينسى مهمته كمدير للعمل، يحاول أن يوفر فى الميزانية ويضبط المواعيد ويطيح فى الأبطال والعمال، لكنه اضطر إلى أن يصبح منتجًا كى يخرج الأفلام التى يريدها بالشكل الذى يحبه.
فى «أيام السادات» خسر أمواله، واعتزل الإنتاج لفشله فى تسديد ديون الفيلم، ويتردّد أنه رفض عرضًا مغريًا من شركة توزيع ستدفع مبلغًا ضخمًا مقابل حذف جزء من خطاب السادات، ولأنه يفعل أى شىء كأنه آخر يوم فى حياته، كان فيلم السادات كبيسًا فى حياته، لجأ إلى ٤ كتاب لصياغته، أحمد بهجت وإبراهيم عيسى وعلى بدرخان ومحمد حسام، ورفض صياغة الأربعة لعدم رضاه عن شكلها النهائى فتأخر العمل طويلًا حتى كتبه بنفسه، أخذ من كل سيناريو ما يناسبه، وكتب على تتر الفيلم: «معالجة سينمائية: أحمد زكى»، ورفض ارتداء غطاء رأس لينتحل صلعة السادات، وقرّر أن يحلق شعره بـ«الموس» يوميًا حتى يتطابق شكلهما.
نتيجة بحث الصور عن البيه البواب

انشغاله طوال الوقت بالبحث عن أفضل شىء لم يتزامن مع لعبه دور المنتج إلى جانب البطل، فقبلها بسنوات حين كان فى بلاتوه «البيه البواب»، فاجأه مساعد المخرج بأن المشهد المقبل سيكون فى نفس ديكور الغرفة، رغم أن البواب أصبح «بيه» ومليونيرًا بالفعل. يحكى السيناريست مصطفى محرم أن زكى قال له: «ماينفعش يا ابنى لأن البواب فى المشهد ده عرف طعم الفلوس وبدأت تجرى فى إيده، ومن الطبيعى ملامح غرفته تتغير والاكسسوار.. يعنى دهان جديد، تلاجة حلوة، سرير مختلف، لازم الديكور يعكس التغيير»، نفد صبر مساعد المخرج، فرد: «عاوزين نِخْلَص يا أستاذ أحمد».
انزعج أحمد: «دى تعديلات بسيطة»، فرد مرة ثانية: عاوزين نخلص يا أستاذ.
انفجر أحمد زكى فى المخرج ومساعده، وغادر التصوير، وأصرّ على إجراء التعديلات مهما كلف ذلك المنتج وقتًا ومالًا.
ليس ضميره وحده الذى يجبره على الكمال، أو محاولة الوصول إليه حتى لو تكلَّلت محاولاته بالفشل، وإنما إيمانه بأنه لا يصح أن يتجاهل فنان حقيقى ظهور عمله بأفضل صورة لرغبته فى أن «يخلص من الشغلانة بسرعة».
وفى فيلم «ناصر» عاين عشرات الحلول السهلة التى يمكن أن تجعله شبيهًا بجمال عبدالناصر فى هيبته ولمعة عينيه، لكنه قرر أن يراسل مراكز تجميل متخصصة فى الخارج، وأرسل لها صورته وصورة الزعيم، طالبًا إجراء جراحة ليبدو شبيهًا به، لكن «لن تضمن لى العودة إلى شكلى الحقيقى بعد نهاية العمل».
وافق زكى، لكن «كل من حولى رفضوا الفكرة، وقررنا استخدام أنف مركبة وقمنا بتصوير دقائق بها، وتشكلت لجنة من إدارة الإنتاج بالتليفزيون لمشاهدتها لتأمر بالاستغناء عنها بعدما قالت فى تقريرها إن زكى لا يحتاج إلى التشبه بأحد، ويكفيه تقمّصه الشخصية».
وفى كواليس «حليم»، كرر زكى الموقف نفسه حين طلب المنتج الأول للفيلم، محسن جابر، منه أن يجسد وجه جديد دور عبدالحليم فى مرحلة الشباب، لكن زكى عاجله بالرفض: «هسافر مصحة فى لندن لإنقاص وزنى وهاعمل مكياج مناسب لأكون شبهه وهو شاب.. متقلقش».