رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ألعاب استخبارية قذرة فى ليل إسطنبول


«جيمس لو ميزوريه» بريطانى الجنسية، يقيم فى المكتب ذاته الذى يعمل فيه بمدينة «إسطنبول» التركية، حيث يقع فى منطقة «توب هانة» التابعة لحى «بيه أوغلو»، يشتهر الحى بأنه من الأحياء السياحية الفاخرة فى إسطنبول، والمطل على شاطئ خليج القرن الذهبى، أثناء خطوات أهالى الحى إلى المساجد لأداء صلاة فجر الإثنين الماضى، تلاحظ لهم وجود «جثة» موجودة بأحد أركان الطريق لا يصدر عنها أى حراك، وبالنظر إليها من البعض تبين أن بها آثارًا لضرب مبرِّح، كما ظهرت عليها مجموعة من الكسور فى الساق والوجه ومناطق أخرى، كما لو أن صاحب الجثة قد تعرض لتهشم كامل، أو على الأقل لضرب مبرح بآلات حادة أو أشياء صلبة.
هذا المشهد الذى تبين من النظرة الأولى للأهالى؛ استدعى منهم إخطار الشرطة على الفور، والتى جاءت على عجل، لتتبين أن صاحب الجثة هو البريطانى «جيمس جوستاف إدوارد لو ميزوريه»، الضابط السابق فى الاستخبارات العسكرية البريطانية، ومدير منظمة «Mayday»، التى تدعم ما سمى بـ«الخوذ البيضاء»، وهى قوات مدنية تطوعية- بحسب المعلن- لتقديم خدمات الدفاع المدنى فى سوريا، التى تأسست فى مارس ٢٠١٣، وقد أشاع العديد من المصادر داخل سوريا وخارجها، منها بعض وسائل الإعلام، أن «لو ميزوريه» هو المؤسس والمدير الفعلى للـ«الخوذ البيضاء»، والمدير هنا تعنى وضع وتوجيه خطط العمل على الأرض، فضلًا عن تمويل نشاط بدءًا من تفاصيله وامتدادات عمله بأنه يلزمه رقم معتبر من الأموال، حتى يبدو قادرًا على الوفاء بعمله- على الأقل- حسب ما ظهر فى العلن أو أمام شاشات الإعلام.
بالطبع مبكرًا جدًا؛ الإجابة عن سؤال من نوعية «من فعلها؟»، هذا إذا قدر الوصول إلى الفاعل الرئيسى أو المكلف بالتنفيذ لحساب من أراد فعلها، فهذه نوعية من الجرائم لم تقع بغرض السرقة، ولا لانتقام شخصى، ولا لغيرها من الدوافع البسيطة. ليس بالنظر إلى المجنى عليه وشخصيته المرتبطة بالعمل الاستخباراتى، ولكن أيضًا لما يخص مسرح العمليات المكلف به، وهو «الساحة السورية»، التى تعج بالأطراف كـ«دول» وآخرين لا يقلون عنها كـ«فاعلين من غير الدول»، فلكل هؤلاء حسابات تحالف وعداءات شديدة التعقيد، وسريعة التقلب فى مسارات تحددها المصلحة البحتة، وميزان الخطوة المحسوبة على الأرض، هذا المناخ الذى تواجد فيه «جيمس لو ميزوريه»، وتلك الجغرافيا التى جعلته يمارس مهام عمله من إسطنبول، المدينة التى أفسحت له مجالها الحيوى، هى المدينة ذاتها، التى تشغل عشرات التنظيمات المسلحة، على الساحة ذاتها وفى دائرة «لو ميزوريه» نفسها، وبالمناسبة رغم أن الراعى قد يبدو واحدًا، وهناك قدر كبير من المصالح تتقارب فيما بينها، لكن تلك التنظيمات ربما تكون أول من يقفز إلى دائرة الاشتباه، فى تنفيذ ضرب وقتل ضابط الاستخبارات البريطانى السابق، قد يكون لمعادلة ثأر تخص تلك التنظيمات، أو لحساب أحد الأطراف، «دول» أو غيرها تريد تصفيه هذا الرجل بذاته، أو إغلاق ملفه، المتخم حتمًا بالمعلومات والتفاصيل، هذا عن من يقفون- ظاهريا- فى صف «لو ميزوريه»، فما بال المتواجدين على الجانب الآخر من المشهد، وهم طابور طويل من الأعداء، أيضا من الدول وغيرها والجميع يستهدف توجيه ضربات انتقامية للآخر طوال الوقت، على أقل استفادة ممكنة، مثل تلك التى تحققت بمجرد الإعلان عن مقتل «لو ميزوريه»، من أن المنظمة التى كان الرأى العام فى بعض الوقت يرشحها لنيل «جائزة نوبل»، أو أى من الجوائز الرفعية، هى مجموعة تدار بمعرفة الاستخبارات البريطانية.
فأول اتهامات مثلًا طالت «لو ميزوريه» صدرت عن الجانب الروسى، حين أعلنوا أن لدى أجهزتهم الاستخبارية معلومات وافية عن علاقة ضابط الاستخبارات البريطانى، بتنظيم «القاعدة» ولديهم تسجيلات توثق اللقاءات التى أجراها فى سوريا، مع ممثلين لـ«جبهة النصرة»، وكلاء القاعدة فى سوريا، والمفارقة أن هذا الاتهام جاء قبل أيام من وقوع الجريمة، حين قالت المتحدثة باسم الخارجية الروسية «ماريا زاخاروفا»: «دعونا نرى من كان ضالعًا فى بدايات ظهور هذه المنظمة، من المعروف بشكل مؤكد أن أحد مؤسسى الخوذ البيضاء هو «جيمس لو ميزوريه» الضابط السابق فى المخابرات البريطانية، وتحديدًا فى (إم أى ٦)، ويصعب التصديق بأن ذلك مجرد صدفة». كما أكدت تقارير الاستخبارات الروسية تساؤلات الخارجية، حين أشارت إلى أن هذا الرجل، ترك آثارًا فى العديد من النزاعات عبر العالم، بما فيها فى البلقان والشرق الأوسط، وكانت له صلات بمنظمات إرهابية خلال عمله فى «كوسوفو»، حيث كان فريقه يضم مجموعة من عناصر تنظيم «القاعدة».
النظام السورى بدوره، كشف عن أن منظمة «الخوذ البيضاء» مسئولة عن العديد من الاستفزازات الكيميائية، فى إدلب والغوطة الشرقية وغيرها، بغرض اتهام الدولة السورية بها، حيث تلقى النظام تأكيدات من وزارة الدفاع الروسية مرارًا، على أن هذه المنظمة هى من تنقل أسطوانات الغازات السامة، إلى كل المناطق التى تنتشر فيها «جبهة النصرة»، كما تم العثور على العديد من المعدات الكيميائية، فى مراكز كان لـ«الخوذ البيضاء» تواجد فيها، فى المناطق التى استعادها الجيش السورى فى كل من الغوطة الشرقية وريفى إدلب وحماة.
تلك بعض من الاتهامات التى انطلقت هنا وهناك، المثير أن البعض منها جاء قبيل ساعات من مصرع ضابط الاستخبارات فى شوارع إسطنبول، ولكن هذا لا يؤشر إلى أن الاتهام يسير فى اتجاه أحد بعينه حتى الآن، بقدر ما يكشف عن حجم التعقيدات التى تكتنف مشهد جريمة القتل، على جانب آخر تقف سلطات الأمن التركية فارغة الأيدى حتى اللحظة، ربما هى تعرف أو سهلت أو استهدفت، هذه احتمالات غير مستبعدة على الإطلاق، لكنى فى الوقت ذاته؛ لم أستطع إزاحة قضية مقتل الباحث «جوليو ريجينى» من دائرة التفكير طوال كتابة تلك السطور، فمنذ اللحظة الأولى لوقوعها، ونحن نؤكد أنها ليست بعيدة عن ألعاب الاستخبارات القذرة، التى كانت تستهدف الأمن والدولة المصرية فى حينه، رغم الكثير من صياح المخدوعين، فى انتظار أن تكشف الاستخبارات التركية، عمَّن فعلها فى شوارعها، وهى التى كانت تملأ الدنيا صياحًا وضجيجًا حول العديد من الألعاب القذرة التى كانت تقف دومًا فى القلب منها.