رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

البطريرك الذى حل مشكلة فيضان النيل مع الحبشة


عندما خلا الكرسى المرقسى بنياحة البابا كيرلس الثانى البطريرك ٦٧ فى ٦ يونيو ١٠٩٢م، بدأ الأساقفة والأراخنة يفكرون جماعيًا فى اختيار أسقف جديد للإسكندرية ليحمل لقب «بابا وبطريرك». فبدأوا بالتشاور مع رؤساء الأديرة، فتوجهوا إلى برية شيهيت وقصدوا دير أنبا مقار، وأخذوا يستعرضون أسماء الرهبان هناك، فأرشدهم أحد الزوار بوجود راهب متوحد حبيس فى صومعة بمدينة «بسنجار»- وهى مدينة ابتلعتها بحيرة البرلس- يُسمى ميخائيل.
ذهب وفد كنسى إلى مدينة «بسنجار»، حيث سألوا أهلها عن هذا الراهب، فكانت إجابتهم تصف هذا الراهب بالرسوخ فى الإيمان والتبحر فى العلم والامتلاء بالقداسة الحقيقية، ما أدى إلى شدة شوق أعضاء الوفد لرؤية هذا الناسك الجليل، واستقر رأيهم على انتخابه لأسقفية الإسكندرية، وتقدم الوفد الأنبا «سنهوت» (أى شنودة، وتنيح فى عام ١١١٧ للشهداء) أسقف القاهرة فى ذلك الوقت ومعه تلميذه الشماس «أبا غالب بن مرقوريوس» ودخلا عليه الصومعة وأخذا يسألانه عن الإيمان والتعاليم الكنسية، وقد أبهرتهما إجاباته الروحية، فأعلنا له سبب حضورهما وباقى الوفد فى الخارج- وهو اختياره أسقفًا للإسكندرية فيكون بطريركًا، فرفض رفضًا باتًا وأوضح لهما أنه لا يصلح لهذا ولا للحياة فى العالم، حيث قضى مدة طويلة فى الوحدة، إلا أنهما أكدا له إن لم يخرج معهما فسوف يأخذانه قسرًا وعنوة، واستعطفاه مرة أخرى فخرج معهما، وقابل بقية الوفد فى الخارج، ثم قصد الجميع القاهرة، فقابلهم الأساقفة والشعب بالتهليل، وساروا بعد ذلك إلى الإسكندرية- كما كان التقليد متبعًا- حيث أقيمت مراسم سيامته البابا الإسكندرى ٦٨ فى ٩ أكتوبر ١٠٩٢م باسم البابا ميخائيل الثانى البطريرك ٦٨ من بطاركة الإسكندرية.
بعد سيامته مباشرة توجه إلى دير أنبا مقار ببرية شيهيت للتعبد والتأمل فى الأمور الإلهية ليستمد من العبادة الصادقة النعمة والحكمة السمائية التى تمكنه من تأدية مهامه الرعوية «لأنه فى ذلك الوقت كانت البطريركية مسئولية شاقة على من يقوم بها فكان لا بد أن يعتمد كليًا على المعونة السمائية، فالمنصب ليس تشريفًا ولا تكريمًا، وقد رأينا الحياة النسكية والرعاية الأمينة فى البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦». ثم عاد إلى القاهرة واتخذ من كنيسة الملاك ميخائيل القائمة على جزيرة فى النيل مقرًا له «حاليًا هى كنيسة الملاك بجزيرة الروضة ومكانها الآن شارع المختار بالروضة».
حدث أن جاء الفيضان منخفضًا إلى حد أزعج المصريين جميعًا، وكان «المستعلى» وهو الحاكم يعرف أن النيل يصل إلى مصر من بلاد الحبشة، وأن الأحباش يدينون بالولاء للكرسى المرقسى، فأرسل مندوبًا إلى البابا المرقسى، وهو البابا ميخائيل الثانى البطريرك ٦٨ يطلب منه الذهاب إلى بلاد الحبشة ليقابل ملكها ويتفاوض معه على الوسائل الممكن اتخاذها لكى ترتفع مياه النيل، وقد بعث الخليفة مع مندوبه بهدية ثمينة ليحملها البابا الإسكندرى إلى العاهل الحبشى.
فرح البابا الجليل فرحًا عظيمًا حين ائتمنه الخليفة «المستعلى» على هذه المهمة، لأنه أدرك أنها خدمة وطنية مزدوجة، فهى من جهة خدمة لبلاده الأصلية مصر، وهى من الجهة الأخرى خدمة لأولاده بالتبنى وهم الأحباش. فقبل رجاء الخليفة وسافر على الفور، وما أن اقترب من مشارف الحبشة حتى توجه الإمبراطور ورجاله لاستقباله بكل مظاهر الفرح والترحاب. وعندما علم الإمبراطور بالسبب الذى حدا بضيفه العظيم أن يحضر إلى بلاده أمر رجاله بأن يُنظفوا مجرى نهر النيل من الأعشاب النامية فيه التى تعيق انسيابه بقوة، فأدى ذلك إلى ارتفاع منسوب المياه ثلاث أذرع فى ليلة واحدة، ودائمًا كانت مشاكلنا مع الحبشة يتم حلها عن طريق بابا الإسكندرية عندما كان البابوات لهم شخصية ومهابة عظيمة عند ولاة مصر وعند ملوك الحبشة، وقد رأينا ذلك فى حياة البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦.
وقد مكث البابا ميخائيل الثانى فى الحبشة عدة أسابيع نجح خلالها فى أن يقيم علاقات المودة بين ملك الحبشة والخليفة «المستعلى»، ومن ثم توثقت الصلة بين الدولتين.
وكان البابا ميخائيل الثانى هو أول من سافر إلى الأقطار الحبشية من بابوات الإسكندرية، رغم أن الصلة الروحية ربطت بين البلدين منذ عهد البابا أثناسيوس الرسولى «٢٩٦- ٣٧٣م» البطريرك العشرين، أى أنه كان قد انقضى على تلك الصلة ما يزيد على سبعة قرون والنصف تعاقب خلالها ٤٧ من بابوات كنيسة الإسكندرية.
وفى عصر البابا ميخائيل الثانى تفشى مرض الطاعون فى البلاد، ولأنه كان أمينًا فى رعايته لأولاده ولا يتركهم للهلاك ويهرب إلى الخارج فيما يُسمى «رحلات رعوية» وهى كلها رحلات شكلية! أخذ يتنقل بين أولاده المنكوبين يواسيهم ويشجعهم دون أن يأبه بتعرضه لخطر هذا المرض، لأنه كان راعيًا صالحًا بالحقيقة. ولما كان مرض الطاعون عدوًا لكل جسد، دب المرض فى جسم البابا الإسكندرى الرحيم الساهر على أولاده.
وفى ذات يوم لاحظ المحيطون بالبابا أنه يرتجف وهو راكب على دابته أثناء تجواله فى رعاية شعبه، فأسرعوا إلى مساندته لئلا يسقط من فوقها وحملوه لقلاية البطريركية. لم يمهله المرض سوى ساعات قصيرة من إصابته إذ انتقل قى صبيحة اليوم التالى الموافق ٣٠ بشنس ٨١٨ للشهداء «٢٥ مايو ١١٠٢م» بعد أن جلس على الكرسى المرقسى ٩ سنوات و٧ شهور و١٧ يومًا، ووضع جسده فى دير أنبا مقار ببرية شيهيت.
وهكذا أكمل سعيه بأفضل رعاية ولم يعطِ لجسده راحة، بل خدم وطنه وكنيسته خدمة أمينة مقدمًا نموذجًا طيبًا لمن يأتى بعده، لكن من يتعظ بسيرته الحسنة هذه؟