رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بريطانيا تتذوق السم



قلوبنا مع الجنرال نيك كارتر، رئيس أركان الجيش البريطانى، الذى ساءه استخدام روسيا أدوات جديدة فى استهدافها بلاده، بينها الهجمات الإلكترونية والتضليل المعلوماتى ونشر الأخبار الكاذبة، ونرى أن له كل الحق حين حذّر، فى مقاله المنشور بجريدة «صنداى تليجراف»، من أن ذلك قد يؤدى، بغير قصد، إلى اندلاع حرب عالمية ثالثة!
منذ يناير قبل الماضى، لا يتوقف الجنرال «أو السير» كارتر عن إطلاق التحذيرات من خطورة عدم قدرة بريطانيا على ملاحقة تطور القدرات الروسية فى هذا المجال، وفى مقاله، المنشور الأحد، الذى حمل عنوان «روسيا المتهورة قد تشعل بالخطأ حربًا جديدة»، أكد أنه لا يقصد التلميح إلى أنها ستشن حربًا وفق التعريف التقليدى للكلمة، موضحًا أن السلوك المتهور وعدم احترام القانون الدولى قد يؤديان بسهولة إلى تصعيد عرضى بسبب خطأ فى التقدير.
الجنرال البريطانى، الذى كان نائب قائد قوات الناتو فى أفغانستان، انطلق من مقولة الإمبراطور البيزنطى موريكيوس: «الأمة التى تنسى من دافعوا عنها ستصبح نفسها يومًا طى النسيان»، تعليقًا على مَن زعم أنهم لا يهتمون بآرائه فى السياسات الحالية التى وصفها بأنها الأقل استقرارًا منذ الحرب العالمية الثانية، وإلى جانب روسيا، اتهم الصين وإيران بتهديد المصالح الغربية، عبر استخدام «أنواع جديدة من الأسلحة» تستهدف التلاعب بالعقول، وخلص إلى أن الغرب عليه أن يتعلم الدروس والعبر من التاريخ، حتى يتمكن من التعامل مع متغيرات أعمق وأسرع مما اعتادته البشرية طوال تاريخها.
بالتزامن، تردد أن لجنة المخابرات والأمن فى مجلس العموم البريطانى «البرلمان» أجرت تحقيقًا بشأن احتمالات تدخل روسيا فى الانتخابات البريطانية، وأن حكومة بوريس جونسون رفضت إصدار نتائج هذا التحقيق، مع اقتراب موعد إجراء الانتخابات الشهر المقبل، وكانت «ديلى تليجراف» قد نقلت عن دومينيك جريف، رئيس اللجنة، المدعى العام السابق، فى ٢ نوفمبر، أن نتائج التحقيق، الذى استغرق إجراؤه سنتين، تم تسليمها إلى «جونسون» فى ١٧ أكتوبر الماضى، وطبقًا لما ذكرته وكالة «بلومبرج»، فإن التحقيق أثار المخاوف من إمكانية التدخل الروسى، لكنه لم يتوصل إلى أدلة صريحة تثبت رعاية الكرملين «الرئاسة الروسية» لجهود التدخل المحتملة.
المواجهة الإعلامية بين روسيا وبريطانيا، والغرب بشكل عام، بدأت باتهامات وجهتها الولايات المتحدة لوسائل إعلام روسية بالتدخل فى انتخابات ٢٠١٦ الرئاسية، ثم تطور الأمر، فى خريف ٢٠١٧، إلى اتهامات صريحة لوسائل إعلام روسية بالاسم، أبرزها قناة «آر تى» ووكالة «سبوتنيك»، ببث أخبار كاذبة، بهدف التدخل فى السياسة الأمريكية الداخلية، وبأنها وسائل دعاية للكرملين «الرئاسة الروسية»، وتم إجبارها على التسجيل رسميًا كـ«وكلاء أجانب» بموجب القوانين الأمريكية، وفى مايو ٢٠١٧ اتهم الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون شبكة «آر تى» ووكالة «سبوتنيك» بأنهما «نشرتا أكاذيب» تخص شخصه وحملته الانتخابية، و«لم تتصرفا كوسائل إعلامية بل كوسائل تأثير سياسى»، لذلك منعهما من دخول مقره الانتخابى.
فى بريطانيا اتهمت مؤسسة تنظيم الإعلام «أوفكوم» قناة «آر تى» بخرق قواعد الحياد فى الكثير من البرامج التى تم بثها بعد تسميم الجاسوس المزدوج سيرجى سكريبال وابنته فى بريطانيا، ومؤخرًا، منعت السلطات البريطانية وسائل إعلام روسية من المشاركة فى مؤتمر دولى لحرية الإعلام فى لندن، ولم تسمح بمشاركة صحفيين أو دبلوماسيين من روسيا، وبررت متحدثة باسم الخارجية البريطانية ذلك بقولها: «لم نمنح تراخيص لشبكة (آر تى) التليفزيونية، ووكالة (سبوتنيك) بسبب دورهما النشط فى نشر المعلومات المضللة».
هذه المواجهة، أو ما يمكن وصفها بالحرب الإعلامية، فرضت نفسها على مؤتمر أقامته منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا، استضافته العاصمة الروسية موسكو، فى ٦ نوفمبر الجارى، ومن على منصة هذا المؤتمر، اتهم سيرجى لافروف، وزير الخارجية الروسى، دولًا أعضاء فى المنظمة، وخص بالذكر بريطانيا، بانتهاك حقوق وسائل الإعلام الروسية، وانتقد «محاولات البعض فرض مبادرات غير شفافة على المجتمع الدولى فى مجال تنظيم عمل وسائل الإعلام والإنترنت»، وقال إن المنظمة ليست ملزمة فقط بتقديم تقييم مبدئى لأى من مظاهر التضييق على وسائل الإعلام، ولكنها ملزمة أيضًا بالحد من أى ممارسات تستهدف قمع وجهات النظر البديلة.
وزير الخارجية الروسى، إذن، يرى أن وسائل إعلام بلاده تتعرض لتضييقات وانتهاكات. ورئيس أركان الجيش البريطانى، مستاء من استهداف روسيا بلاده بأدوات جديدة، بينها وسائل الإعلام، بينما يقول الواقع إننا أمام فعل ورد فعل، يستخدمان أدوات قديمة، وينبغى أن يتساويا فى المقدار، حتى تتحقق نظرية نيوتن، إذ إن الدولتين تستخدمان وسائل الإعلام، التقليدية والبديلة، فى نشر الأخبار الكاذبة والتضليل والتلاعب بالعقول، وطبيعى أن تتذوق كلتاهما، وبريطانيا خصوصًا، قدرًا من السم الذى تطبخه، حتى يتحقق المثل القديم!