رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدث هذا منذ عقود سبعة «3»


تناولنا فى المقالين السابقين سطورًا من كتاب صحوة العملاق الصينى، التى لا يزيد عمر جمهوريتها الشعبية، التى احتفلت منذ شهر واحد بعيد تأسيسها السبعينى، على عمر فرد واحد، وعرضنا بعض أسباب وشروط هذا الصعود الأسطورى، الذى بوأها هذه المكانة على قمة دول العالم، اقتصاديًا وتكنولوجيًا، وهى فى الطريق لاستكمال عناصر القوة على المستويين: السياسى والأمنى.
نأتى الآن إلى الصفحة الراهنة من حياة الصين وشعبها، التى ارتبطت بتولى «شى جين بينج» موقع الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعى الصينى، فى ١٥ نوفمبر ٢٠١٢، ورئيس جمهورية الصين الشعبية فى ١٥ مارس ٢٠١٣، والتى تدعمت خلالها مسيرة أو طريق أو منهج بناء «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، منذ وضع أُسسها الرئيس الأسبق «دينج شياو بينج»، موضحًا مضمونها فى حديث صحفى عام ١٩٨٤، بأنها: «الاشتراكية التى تتلاءم مع ظروف الصين، وتتميز بخصائص صينية».
فى خلال هذه السنوات القليلة التى مرت منذ إعلان الصين انتهاجها هذا الطريق، تجاوزت عثرات الماضى، وخاصة عقد «الثورة الثقافية» الذى بدأ عام ١٩٦٦، وشهد اضطرابات عظمى ومشكلات جمّة. وانطلقت بقوة الصاروخ استنادًا فى المقام الأول إلى تعظيم وجود ودور «المُكَوّن البشرى»، صانع «المعجزة» وبنّاء الحضارات.
فحسب التقديرات العالمية، وبتقويم «الناتج المحلى الإجمالى» وفقًا لأسعار الصرف الاسميّة، احتل الاقتصاد الصينى الموقع الثانى فى مقدمة الاقتصاد العالمى، بناتج محلى إجمالى قدره ١١.٣٩٢ تريليون دولار «بإحصاءات عام ٢٠١٦»، وبما يمثل ١٥.١٪ من إجمالى الناتج العالمى، ويقع تاليًا للاقتصاد الأمريكى الذى بلغ الناتج المحلى الإجمالى له، بتقديرات نفس العام ١٨.٥٦٢ تريليون دولار، بنسبة ٢٤.٧٪ من إجمالى الناتج العالمى. ولكن إذا قدّرنا الوضع حسب منهجية «تعادل القوة الشرائية» «ppp»، وتبعًا لتقديرات «صندوق النقد الدولى»، فقد تجاوز الاقتصاد الصينى نظيره الأمريكى منذ عام ٢٠١٤.
وفضلًا عما تقدم، فهناك مؤشرات أخرى عديدة ذات أهمية بالغة فى تأكيد «جدارة» المسار الصينى، ومنها: أن نسبة الدين الحكومى إلى الناتج المحلى الإجمالى «GDP»، فى الصين هى الأقل بين الدول الصناعية الكبرى وتبلغ ٤٣٪، قياسًا إلى ألمانيا ٧١.٢٪، ومنطقة اليورو ٩٠.٧٪ والولايات المتحدة الأمريكية ١٠٤٪ واليابان ٢٢٩.٢٪.
وتعد الصين صاحبة الاحتياطى الأكبر من النقد الأجنبى فى العالم. إذ بلغ فى أواخر عام ٢٠١٦ ما قيمته ٣.٠٥١ تريليون دولار، مقابل ١.٢٤٣ تريليون دولار لليابان، فيما احتلت الولايات المتحدة المركز التاسع عشر.
وبعد أن اقتحمت الصين، فى رحلات غير مسبوقة لاستكشاف «الجانب المظلم من القمر»، وغيرها من المسارات الفائقة التقدم، والأهم أنها استطاعت، أن تقوم بإنجاز تاريخى، تمثّل فى القضاء على الفقر، حيث انتشلت من مستنقعه، خلال الأعوام الأخيرة، نحو سبعمائة مليون إنسان، وهى فى طريقها لإعلان القضاء المبرم على بقاياه خلال الفترة القريبة القادمة، وكل ما تقدم يلقى ضوءًا ساطعًا على أسباب «الحملة التترية» الأخيرة، لـ«ترامب» على الصين واقتصادها.

كان «نابليون بونابرت» مُحِقًّا عندما قال: «عندما تستيقظ الصين، فإن العالم ينتفض»، وهو كان يقصد عالم الغزو الإمبريالى، وامتصاص دماء الشعوب.
ومرة أخيرة: هل تجربة الصين تجربة مثالية خالية من الأخطاء؟ والجواب: بالقطع لا! فهى ككل تجربة إنسانية بها من الأخطاء والمثالب ما تفيد دراستها فى تجنب الوقوع فيها. ونحن لا نطلب نقل هذه التجربة نقلًا حرفيًا، لأن هذا غير ممكن، فلكل تجربة إنسانية شروطها الموضوعية وظروفها التاريخية، ولكن من الممكن، بل ومن الواجب التعلم من درسها الأول والأخير: أهمية العامل البشرى فى النهوض والتغيير.
فالصين لم تُحقق ما حققته من إنجازات، كما صنعت دول الغرب الاستعمارية، اعتمادًا على الغزو ونهب المستعمرات، واستعباد الشعوب، وإنما اعتمادًا على الاستغلال الأعظم لعناصر «القوة الذاتية»، وفى مقدمتها الإنسان.