رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حدث هذا منذ عقود سبعة «2»



أشرتُ فى المقال السابق إلى النهضة الصينية المعاصرة، الشاملة، التى يصفها البعض باعتبارها معجزة جديدة، وهى معجزة لا علاقة لها بالسحر والخوارق، أو تدخلات ما وراء الطبيعة، وإنما هى معجزة صنعها الجهد البشرى المحض، والتضحيات الجِسام، والتخطيط الشامل، والعمل الدءوب.
ذكرتُ، بمناسبة الاحتفال بالذكرى السبعين لميلاد جمهورية الصين الشعبية، فى الأول من هذا الشهر، أن هذه الإنجازات المبهرة، عمرها لا يزيد على عمر شخص واحد، أى أنها استطاعت فى مدى زمنى لا يُقاس بالنسبة لتواريخ الشعوب أن تعبر مستنقعات التخلف والفقر والاحتلال الأجنبى، إلى مقدمة الصفوف والمنافسة على صدارة العالم، وتساءلت عن السبب، وعن ماهية العناصر المؤثرة التى حملتها، فى غضون العقود السبعة لا غير، إلى هذه المكانة؟
جملة أسباب نذكرها، دون الخوض فى التفاصيل، بسبب حدود المساحة، أهمها:
«١» وجود حزب قائد ومنظم، هو الحزب الشيوعى الصينى، الذى تأسس عام ١٩٢١، وهو حزب ذو خبرة ووعى عميق مُكتسب ومُتراكم، ومرتبط بعمق بالناس، ومعبّر عن آمالهم ومطالبهم، ويحظى بالثقة والاحترام، ووجود قيادة تاريخية كاريزمية لهذا الحزب، تمثّلت فى الزعيم «ماوتسى تونج» الذى شارك فى تأسيسه ووضع قواعده، وتطوير أدائه.
وقد وصف «ماوتسى تونج» علاقة الحزب بالجماهير الشعبية الصينية بعلاقة السمك بمحيطه المائى، إن خرج منه مات. ومن هنا حرص الحزب الشديد، الذى يقترب عدده الآن من عدد الشعب المصرى، على التطهير الحاسم والدورى لصفوفه من الفاسدين والانتهازيين، حتى لا يُقيموا حجابًا حاجزًا بينه وجموع الشعوب تفقدهم الثقة فيه، وفى جدارته بموقعه القيادى.
«٢» امتلاك منهج عمل واضح، بصرف النظر عن تقييمه أو قبوله، هو المنهج الماركسى، الذى أرسى الأسس الأيديولوجية الرسمية للحزب، وأقرَّ أولوياته، وأوضح مراحل نضاله، وحدد أى الطبقات الاجتماعية التى سينحاز لها، وفى مواجهة من الطبقات الاجتماعية الأخرى، كما حدد له معسكر الأصدقاء والحلفاء من جهة، ومعسكر الخصوم والأعداء من جهة أخرى، فى الداخل وفى الخارج.
«٣» ورغم الإطار الأيديولوجى الماركسى الصارم، امتازت تحركات وتحالفات وخطط عمل الحزب وقياداته بالمرونة التكتيكية، والقدرة على صياغة خطط مرحلية تتواءم مع الظروف والمتغيرات، لكنها وهى فى هذه الحالة كانت لا تحيد عن هدفها الرئيسى المتمثل فى تحرير الصين من غوائل التدخل الأجنبى، وتحقيق تقدمها، وازدهار حياة شعبها.
«٤» الارتباط العميق للحزب وقياداته بالتاريخ والحضارة الصينية التليدة، والمُمتدة فى عمق التاريخ لنحو خمسة آلاف عام، والربط المستمر التفاعلى الجدلى بين الماضى والحاضر، والاستدعاء المستمر لوقائعه ودروسه وعِبره وفنونه وآدابه وشخصياته ورموزه.. إلخ، لتنشئة المواطن على الاعتزاز بماضيه، والافتخار بمنجزاته، والثقة فى نفسه، والرغبة فى استعادة سيرته المُتقدمة الأولى.
«٥» حرص القيادة الصينية على الانفتاح والتجدد، وعدم تكلُّسها خلف مقولات جامدة أثبتت الوقائع تجاوز الزمن لها وعدم جدواها، والإصرار على النجاح فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة، مهما كانت المصاعب، والارتباط بإيقاع العصر ومُستجداته، والإيمان بالعلم والعمل، كأداة للتقدم وتطوير الأوضاع، والإيمان بالشعب وقدراته الكامنة، والاجتهاد فى تحسين أحواله يومًا بعد يوم، للحفاظ على ثقته فى خطط الحزب وقيادته، والتفاعل الإيجابى معها. وهكذا، على سبيل المثال استطاع التنين الصينى أن يزحف، بإعداده الرهيب، إلى الصف الأول، وأن ينافس على الصدارة، وأن يمحو فقر أكثر من سبعمائة مليون فقير، وأن يسيطر على نحو ثُلث تجارة العالم، وأن يبتكر ويبدع ما يذهل العالم كله.
ويبقى أن أذكر، عسى أن تنفع الذكرى وتفيد، أن سياسة الانفتاح التى دشَّنت نهضة الصين العظيمة الحالية تم اعتمادها عام ١٩٧٨ فى عهد الزعيم «دنج هسياو بنج»، أى بعد انفتاحنا بأربع سنوات، وفى غضون هذه السنوات الأربعين فعلت الصين ما فعلته، وفعلنا ما فعلناه.