رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقدمة فى التيه والتوهان



من أى عبء كنت أتخلص؟ لم أكن أتخلص من أى عبء. لم تكن الأمور واضحة لى، لم أفكر فى الأمر، روحى وعقلى كانا مساحة بيضاء خالية من أى ظلال لشك أو خوف أو لهفة، مساحة ساكنة ليست لافحة حارة ولا باردة ثلجية، بيضاء وفقط، ليس فيها ما يؤذى أو يجرح أو يفاجئ، دون معنى للأشياء، دون دلالات، دون حساب للخطوة والخطوات التالية، لم أتشبث به ولم يتشبث بى، لم يرضع الصغير منى، أنا التى تميزت بأنوثة متفجرة وكان صدرى بشموخه تحت ملابسى مصدر فخر وجذب وحسد.
لم يستطع طفلى أن يرضع لأن حلمتى ثديى كانتا غائرتين، لم أكتشف هذا الموضوع أثناء فترة الحمل لأننى كثيرًا ما كنت أتغيب عن مواعيد المتابعة الدورية عند طبيب النساء، وربما لم يكن شكلى يوحى بوجود هذا العطب.. كان ثدى جماليًا، لم يكن وظيفيًا لإطعام طفل.. حاولت أمى وأوصتنى أن أدعكهما بالزيوت المرطبة حتى يستطيع الطفل أن يأكل ويكف عن الصراخ، لكنى كنت متعبة من العملية القيصرية وتائهة من تأثير البنج والجرح يؤلمنى.. لم أسانده ولم يساندنى، نظرت للرضيع كشىء غريب.. حتى هذه النظرة أنا لا أفسرها الآن، لم يكن هناك غير البلادة والفتور والهمدان.. ليس اكتئاب ما بعد الولادة.. التيه والتوهان.
يشعرنى دائمًا بحاجته إلىّ، وأنه لا يستطيع الاستغناء عنى فى العمل، فى تفاصيل الحياة، كان متطلبًا، لا يتصرف فى العمل دون رأيى، لكن فى حياتنا لم يكن لى رأى، حياتنا تُسيرها أمه وأبوه، وأنا أسيرة العمل آخذ قرارات الشركة، أتصل بشركات لتنظيم أفواج سياحية، أتخذ القرارات المالية والأدارية بالشركة، لكنى لا أستطيع اتخاذ قرار بشراء بلوزة أو فستان أريدهما، أو أى شىء أحتاجه، حتى نوع الأكل، أيام الإجازة، كيفية تمضية الوقت.. كنت فى حالة توهان فى قلب زحمة.
قبل ميلاد شريف ورثت جدته بيتًا فى بورسعيد، وكانت تخشى أن يستولى عليه إخوته فقرروا فجأة نقل حياتهم لبورسعيد.. اعتقدت أن هذا سيريحنى من كثير من المنغصات الصغيرة وسيجعلنى أتحكم فى حياتى، ولكن ما حدث أن الحياة بتفاصيلها أصبحت ممتدة من المعادى إلى بورسعيد، وزاد عليها إرهاق السفر كل نهاية أسبوع إلى والديه، نسافر الخميس بعد أن أعود من العمل، وأحضر له الغداء وأنظف البيت، نسافر فى «السوبرجت»، وفى الوقت الذى أجهز أنا الغداء وشنطة السفر يكون هو نائمًا أو يشاهد التليفزيون.. مستريحًا، مسترخيًا.. تصدر منه تعليمات: متنسيش المايوه الأزرق، البنطلون الرمادى غير مكوى، لفى لى حتتين اللحمة الباقيين فى ساندوتش، و..، و...
أظل أدور حتى نغلق باب الشقة. مجرد أن أركب السوبرجت ويبدأ السائق فى تشغيل الفيديو، يبدأ جفناى فى التثاقل.. أتمنى أن أغمض عينىّ ربع ساعة، عشر دقائق، يقولون إن القيلولة مفيدة.. أريد أن أفصل بعضًا من الوقت كى أعيد الشحن، لكنه لا يستطيع أن يجلس بمفرده: شوفتى البطل هيعمل إيه؟ عادل إمام ده عفريت، هو أحسن ولا سعيد صالح ؟.. أنتبه، أرد عليه: الاتنين كويسين، يغضب: الواحد حاسس إنه مش متجوز، أول ما تقعدى معايا دائمًا كده عايزة تنامى، إيه ده خم نوم، ما تشوفى الستات عاملة إزاى ومالك كده مدهولة فى نفسك، شوفى بتأكله فى بقه إزاى؟.. أصلب نفسى، وأمسك بذراعه: ما تزعلش، اسألنى تانى وأنا هجاوب، أخرج منديلًا مبللًا أمسح وجهى.
يغضب لأتفه الأسباب، وأنا أخاف أن يغضب.. فى اليوم الرابع لزواجنا كنت قد دخلت أستريح بعد الغذاء، وفجأة شعرت بجسد يرتطم بى، صحوت فزعة: اصحى، إيه ده نايمة ليه، قومى اعملى لى شاى.. ارتجف كل جسدى ظللت أرتجف وأنا لا أعى أين أنا.. وسط ارتجافى الذى لم يطارده كل محاولاتى للتماسك، وجدت نقط من البول فى ملابسى الداخلية، قدمت له الشاى وجلست متكومة على نفسى، قبل أن يكمل كوب الشاى، اقترب منى وسحبنى لغرفتنا.. نام فوقى كان ثقيلًا.. ثقيلًا وكان جسدى ما زال يرتجف خوفًا.. وعضوه يخترقنى ويضاعف من خوفى وألمى كسوط يعبث بجرح مدمى ويضيف عليه مزيدًا من الملح، خفت أن أبكى، أصابنى الخرس، بعد أن انتهى نزل عنى ونام. وبقيت أنا مستيقظة.. والدموع فقط هى الشىء الحى الوحيد الذى يتحرك فى بشكل خطى، بينما أعضائى وكل خلاياى تتحرك حركات مضطربة مرتجفة، حركات دائرية متخبطة.