رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بابا الفاتيكان يوحنا بولس الأول.. المتضع بالحقيقة


البابا يوحنا بولس الأول هو بابا الكنيسة الكاثوليكية 263 فى الفترة (26 أغسطس 1978 - 28 سبتمبر 1978) في واحدة من أقصر الحبريات التي عرفتها البابوية الكاثوليكية. انخرط البابا في السلك الكهنوتي فى مرحلة مبكرة من حياته، وشغل قبل انتخابه، عددًا من المناصب الهامة في الكنيسة الكاثوليكية كان أعلاها "بطريرك البندقية (فينيسيا)". عُرف هذا البابا بين الإيطاليين باسم "البابا الباسم" أو "بسمة الله". مع بداية حبريته قام باستبدال اللقب الرسمي الخاص به من "الحبر الأعظم" إلى "الراعي الأعلى"، وبهذا الاسم وجهت الدعوات الرسمية لحضور حفل التنصيب. أما اسمه البابوي فقد جمع لاسمي سلفيه يوحنا 23 وبولس 6.
وُلد باسم "ألبينو لوتشياني" في قرية "فورنو دي كانالي" شمال البندقية فى 17 أكتوبر 1912، وعند ولادته كان ضعيف الصحة. عُرف عن والدته الإيمان الصادق والمواظبة على حضور الصلاة في الكنيسة باستمرار؛ أما والده، كان اشتراكيًا؛ وهو ما دفع بعض المؤرخين لقولهم أن "ألبينو" كان من كارهي الحزب الاشتراكي، وأنه تأثر بوالدته أكثر مما تأثر بوالده. ولعدم استقرار الأب في مهنة، كانت العائلة تعيش حياة أقرب للفقر.
عندما كان "ألبينو" في الحادية عشر من عمره، أراد دخول الدير بتشجيع من والدته وكاهن القرية، وتقبل والده الأمر دون اعتراض، فانخرط في المدرسة الإكليريكية عام 1923 وله من العمر 11 عامًا فقط في قرية "فلتر" القريبة من قريته، ومنها انتقل إلى إكليريكية الايبارشية في مدينة "بولونو". أراد الانخراط في الرهبنة اليسوعية لكن رغبته لم تتحقق. صار كاهنًا في 7 يوليو 1935 وله من العمر 23 سنة، وفي عام 1937 عُيّن معاونًا لمدير المدرسة الإكليريكية في "بلونو"، مع دراسة الدكتوراه في اللاهوت، وانتقل إلى الجامعة الـ "غريغورية" في روما لهذه الغاية بموافقة شخصية من البابا بيوس 12 وأشرف على رسالته عدد من كبار لاهوتيي ذلك العصر ومنهم "فيليس كابيلو". وقد بدأ دراسته في 27 مارس 1941، وتقطعت خلال فترات من الحرب العالمية الثانية وحصل عليها أخيرًا في 23 نوفمبر 1946. في عام 1947 عينه مطران "بلونو" معاونًا عامًا في الأيبارشية، وفي عام 1958 توفيت والدته ووالده، وفي العام نفسه عينه البابا يوحنا الثالث والعشرون أسقفًا على البندقية وله من العمر 46 سنة. ثم رُفع في 15 ديسمبر 1969 إلى مرتبة بطريرك البندقية وكاردينال في الكنيسة الكاثوليكية خلال حبرية البابا بولس السادس. وأقباط مصر يذكرونه بكل الخير إذ أنه فى عام 1968 وافق على طلب البابا كيرلس السادس البطريرك 116 والمُقدم للبابا بولس السادس بابا الفاتيكان للحصول على بعض من رفات القديس مرقس الموجودة بكاتدرائية سان ماركو فى فينيسيا.
بعد نياحة البابا بولس السادس، تكاثر عدد المرشحين لخلافته، وكان من المتوقع أن يطول اجتماع المجمع الانتخابي، إلا أنه فإن البابا حصل على 68 صوتًا، ومع تكرار عمليات التصويت والمشاورات بين الكرادلة اتفقوا على انتخابه، فانتُخب بأغلبية 99 صوتًا مقابل الكاردينال "سيري" الحاصل على 68 صوتًا، علمًا أنه لانتخاب البابا يجب الحصول على ثلثي المجمع الانتخابي.
كانت مراسم القداس الإلهي الذي يتخلله حفل تتويج البابا تعود للقرن 11 ويتخلله الكثير من مظاهر الترف والبذخ يتقدمها الـ "تيرا" وهو التاج البابوي ذو الثلاث طبقات للإشارة إلى السلطات الثلاث "الأرضية والسماوية والزمنية"، وكان يُصنع من المعادن الثمينة. قام البابا بولس السادس بإلغاء "تيرا" وباع تاجه وهو هدية من أيبارشية ميلانو ووزع ثمنه على فقراء المدينة، وعند انتخاب البابا يوحنا بولس الأول، كانت تلك المرة الأولى منذ تسعة قرون يُلغى فيها "حفل التتويج" ويُستبدل "بحفل التنصيب"، ويُقلّد البابا فيها تاجًا أسقفيًا عاديًا إلى جانب الـ "باليوم"، وهو وشاح صوفي أبيض يرتديه كبار البطاركة والأساقفة إلى جانب البابا رمزًا للسلطة الدينية. وعمومًا فإن كثيرًا من مظاهر الفخامة التي كانت تصاحب مواكب البابا كحمله على عرش خاص ونفخ الأبواق الفضية كانت قد ألغيت خلال حبرية البابا بولس السادس ضمن سلسلة الإصلاحات التي أقرّت بعد المجمع الفاتيكاني الثاني.
فى فترة أنتخابه كنت طالب دراسة للدكتوراه بجامعة "وندسور" الكندية، وكنت أتابع عملية الأنتخاب بشغف شديد من خلال نشرات الكنيسة الكاثوليكية ومجلة Newsweek الأمريكية الأسبوعية والتى مازلت محتفظًا بأعدادها. وبعد أعلان أختياره قمت بإرسال خطاب تهنئة لقداسته على الفاتيكان بالبريد العادى وبخط اليد – بعد أن أستفسرت من رئيس قسم الرياضيات بالجامعة إذ كان أحد قساوسة الكنيسة الكاثوليكية فى مدينة "وندسور" عن عنوان المراسلات للفاتيكان. وقد وصلنى خطاب شكر من الفاتيكان لكن للأسف بعد رحيل البابا الذى مكث فى بابويته فقط 33 يومًا !!
عمل البابا يوحنا بولس الأول على "أنسنة" مكتب البابا ودوائر الفاتيكان، فكان أول بابا في العصور الحديثة تكلم بصيغة المفرد أن استخدم "أنا" بدلًا من صيغة "نحن". وكان من أعماله أن دعا المؤمنين للصلاة في 10 سبتمبر 1987 من أجل نجاح مفاوضات "كامب ديفيد" للسلام في الشرق الأوسط. لم يُصدر أي دستور رعوي، لكن كان يعد رسالة عامة من أجل تأكيد قرارات المجمع الفاتيكاني الثاني (أنعقد فى الفترة 1962 – 1965)، وتشديد الانضباط في حياة الكهنة وسائر المسيحيين. كان البابا صاحب مبادرات إنسانية رائعة مثل تخصيص 1% من إيرادات الكنائس حول العالم لتوزع على الفقراء في العالم الثالث.
حدث بعد أختياره أن توجهت لتهنئته بالفاتيكان مجموعة من راهبات الكنيسة الكاثوليكية بكندا ومنهن راهبات من إحدى الأديرة بمدينة "وندسور"، وقدمن له هدية عبارة عن صليب من الذهب. ولأنه كان متقشف جدًا فى حياته – وأعاد لذاكرتى حياة البابا كيرلس السادس البطريرك 116 النسكية – فقد أستلم منهن الصليب وقد لاحظ أن الصليب ليس عليه المسيح مصلوبًا، فقال لهن: (الصليب بدون المسيح يصعُب حمله)، فأستلم منهن الصليب وشكرهن ولم يرتديه!!
وُجد البابا راقدًا في سريره ومتوفيًا قبل وقت قصير من فجر يوم 29 سبتمبر 1978، أي بعد 33 يومًا فقط من بابويته، أفاد الفاتيكان أن البابا البالغ من العمر 65 عامًا قد توفي في الليلة السابقة إثر نوبة قلبية؛ لم يجر تشريح للجثة كما هو معتاد، بعض التقارير أفادت أن البابا قد عثر عليه متوفيًا، وفي يده بعض أوراق كان يكتبها.
لقد عاش البابا يوحنا بولس الأول الفضائل المسيحية الثلاث "الإيمان والرجاء والمحبة"، وقد أنتقل من الموت إلى الحياة، تاركًا لنا تراثًا غنيًا بالذكريات الطيبة على الرغم من قصر فترة بابويته.