رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لبنان.. بعد الورقة التخديرية


مهلة الـ٧٢ ساعة التى منحها سعد الحريرى، رئيس الوزراء اللبنانى، لشركائه فى الحكومة، انتهت مساء أمس الإثنين. وقبل ساعات من انتهائها أعلن الحريرى عن موافقة مجلس الوزراء على ورقة الإصلاحات التى طرحها، وعلى ميزانية ٢٠٢٠، بينما الاحتجاجات مستمرة، والمتظاهرون ما زالوا يرددون: «الشعب يريد إسقاط النظام»، وظل مطلبهم الأساسى هو رحيل الطبقة السياسية الحاكمة بالكامل.
ورقة الحريرى الإصلاحية، أو التخديرية، تضمنت ٢٤ قرارًا أو إجراءً، بينها التراجع عن كل أنواع الزيادات فى الضرائب على الخدمات العامة، وعن الاقتراحات الخاصة باقتطاع جزء من تمويل سلسلة الرتب والرواتب، و... و... وإلغاء صناديق المهجرين، الجنوب، الإنماء والإعمار، وخفض جميع رواتب الوزراء والنواب الحاليين والسابقين بنسبة ٥٠٪. وإقرار قانون استعادة الأموال المنهوبة وقانون رفع السرية المصرفية على جميع الوزراء والنواب والمسئولين فى الدولة. و.... و... إلغاء جميع ما تم خفضه من معاشات التقاعد للجيش والقوى الأمنية.
لم يكمل المتظاهرون الاستماع لكلمة الحريرى، إلا ورددوا هتافات تطالبه بالرحيل وتسخر من أى حلول «تخديرية». ثم عقدوا مؤتمرًا صحفيًا فى ساحة رياض الصلح، وسط بيروت، أعلنوا فيه عن استمرار الاحتجاجات إلى أن يتم تشكيل حكومة إنقاذ مستقلة مصغرة ذات صلاحيات استثنائية من خارج المنظومة الحاكمة. وتمسكوا بضرورة رحيل الطبقة السياسية بأكملها، وكأنهم يردون على رئيس الجمهورية، ميشال عون، الذى أقر بأن الاحتجاجات تعبر عن «وجع الناس»، لكنه رأى أن «من الظلم اتهام كل السياسيين بالفساد».
بهذا الشكل، ليس متوقعًا أن يرضى المتظاهرون بتعيين وزراء بدلاء للمستقيلين، أو بإعفاء آخرين. أو حتى باستقالة الحكومة وإعادة تكليف الحريرى بتشكيل أخرى متوافقة أو منسجمة، اقترح البعض. وعليه، لم يعد هناك مفر من بدء التحضير لانتقال سلس للسلطة، يراعى أوضاع البلاد التى لا تحتمل استمرار حالة الشلل التام التى تعيشها الآن.
الاحتجاجات، كما أقر الحريرى، «استعادت الهوية الوطنية اللبنانية وكسرت الحواجز الطائفية». كما أقر أيضًا بأن القرارات التى اتخذتها حكومته لا تحقق مطالب المحتجين، معلنًا استعداده لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. وهذا هو القرار الأهم، فى تصورنا، إذ إن الوضع سيظل على ما هو عليه، ما لم تتغير موازين القوى تحت قبة البرلمان. غير أننا لا نعتقد أن ذلك ممكن إلا فى وجود قانون انتخابات جديد، يتيح للمواطنين اختيار ممثليهم بشكل حقيقى، دون أى قيود طائفية، عرقية، أو مذهبية.
البرلمان الحالى، جاء بعد تسع سنوات عجاف، بدأت فى ٢٠٠٩ ولم تنته إلا منتصف العام الماضى. والسبب هو أن البرلمان السابق، قبيل انتهاء مدته فى ٢٠١٣، قام بإجراء تعديل على قانون الانتخابات أتاح له الاستمرار إلى ٢٠ نوفمبر ٢٠١٤، بسبب «الظروف الأمنية الاستثنائية التى تمر بها البلاد». وبسبب تلك الظروف أيضًا، قام البرلمان فى ٥ نوفمبر ٢٠١٤ بالتمديد لنفسه إلى ٢٠ يونيو ٢٠١٧، ثم قام فى ١٦ يونيو ٢٠١٧ بإقرار قانون انتخابى جديد، كان بين بنوده تأجيل الانتخابات لمدة ١١ شهرًا، أى إلى مايو ٢٠١٨، ولم تكن الظروف الأمنية هى السبب، هذه المرة، بل تم إرجاع التأجيل إلى أسباب «تقنية»!.
بعد السنوات التسع العجاف، اختار اللبنانيون ١٢٨ نائبًا من حوالى ٥٠٠ مرشح و٧٧ قائمة، بعد أن تم تغيير قانون الانتخابات إلى نظام معقد يستند إلى التمثيل النسبى، وتتوزع بموجبه المقاعد وفقًا لعدد الأصوات التى حصلت عليها القوائم. وبالتالى، لم يحدث تغير فى موازين القوى، وخضعت غالبية، إن لم تكن كل، القرارات والمشروعات والقوانين لمنطق الصفقات.
قانون الانتخابات الجديد، زاد تعقيد النظام المعقد تعقيدًا، لأنه التزم بالتمثيل الطائفى، القائم منذ التوقيع على اتفاق الطائف، سنة ١٩٨٩: تقسيم المقاعد بالتساوى بين المسيحيين والمسلمين.. ونسبيًا بين طوائف كلتا الفئتين.. ونسبيًا بين المناطق. مع أنه كان من المفترض، طبقًا للاتفاق نفسه، اتفاق الطائف، أن يتم خلال «فترة انتقالية» إلغاء قاعدة التمثيل الطائفى واعتماد الكفاءة والاختصاص فى الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة والمصالح المستقلة.
لم تشهد شوارع لبنان مثل هذه الحشود، منذ مارس ٢٠٠٥، لكن ما اختلف هذه المرة هو أن المتظاهرين رفعوا العلم اللبنانى فقط، وتخلوا عن انتماءاتهم الطائفية، المذهبية، العرقية أو الحزبية، واتفقوا على رفضهم للطبقة السياسية الحاكمة، إجمالًا، وحمّلوها مسئولية الأزمة الاقتصادية. ومع استمرار تظاهرهم، نكرر أن اللبنانيين، وحدهم، هم المعنيون بالتوصل إلى الحلول التى يرتضونها. وأن كل ما علينا هو النصيحة، إذا جاز لنا أن ننصح، بضرورة تجنب كل أشكال الانقسام، ورفض أى محاولات خارجية للتدخل فى شئونهم الداخلية.