رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ندية

جريدة الدستور



على مكتبها الوظيفى تجلس ندية، أمامها العديد من الملفات والأوراق وطابور متوسط الحجم من المواطنين، اليوم تسليم الأوراق المنتهية لأصحابها، عادة ما تغرق عينا ندية ورأسها فى الأوراق، فلا ترى عيون الناظرين إليها، لا ترى شيئًا سوى أفكارها عن هموم حياتها، حياتها هى وحسب، حتى هموم الدنيا لا ترى منها إلا ما يخصها وبيتها، ما عدا ذلك لم يعد يعنيها فى شىء، تنتبه لنظراته الجريئة فجأة، لم يكن ينظر خلسة، لم يكن يحاول الاختباء، كان من أولئك الفخورين بأنفسهم، لفت انتباهها ذلك المتباهى العتيد عن نظرات الجميع بعد ذلك، صارت لعبتها المحببة، لكنها لم تكن مثله فى الجرأة، كانت تراقبهم بحذر وهم ينظرون، كانت تقنع نفسها بأنها تشاهد جوع العالم المريض، فى السابق كانت تعرف لماذا يحدق فيها الجميع، اليوم بعد أن توارى ما كانت تحبه فى نفسها، تحت طبقات من الشحوم لم تعد تفهم، لِمَ عينا الرجل تخترق ملابسها، وتشعرها بأنها تمزق صدريتها؛ لتمعن النظر فى تلك النهود العملاقة، لم تعد بجاذبيتها القديمة أجمل ما فيها، بل هى جزء متناسق مع كتل اللحم المتراصة واحدة تلو أخرى من أعلاها لأسفلها.
فى المساء تقف عارية تمامًا فى غرفتها، التى أحكمت إغلاقها، أمام المرآة تحدق فى نفسها، فى تفاصيل جسدها، تنتابها الحسرة على ذاتها القديمة، حتى ذلك الجسد لم يعد جسدها، لا تعرف أين ذهب، تشعره جسدًا لغريبة لا تعرفها، فى زحام الشحم تاه جسدها المنحوت، تمثال الجمال انسكبت فوقه كتل صماء ليست له، ليست منه، فى زحام كل شىء لم تعد قادرة على أن تعثر على أى شىء فيها.
رجال المصلحة يحدقون بنهم، رجال الشارع كذلك، لا تعرف فيما يحدقون، لا تفهم ذائقة هذه العيون، لا تفهم الكثير مما يجرى فى الحياة حولها، ولم يعد ثمة طاقة أو وقت للفهم، صارت تضحك دائمًا، تضحك من عالم غامض مستعصٍ على الفهم.
فى المساء تبكى بحرقة من حين لحين، مرة لأنها فقدت رونقها القديم، وأخرى لأنها صارت
كـ«عبلة»، تتسول الاشتهاء، ولو من دون قصد.
مرتان اثنتان رافقت «عبلة»: تعالى بس هتنبسطى شوية.
لم تفهم ولم يخطر ببالها قط إلى أين هُما ذاهبتان، ابن الخال الرابع لـ«عبلة» بعربته الفارهة فى الشارع الخلفى ينتظر لتوصيلها، لفافات صغيرة فى ورق ملون، ضحكات وأغنيات من حقبة الثمانينيات لوردة الجزائرية طيلة الطريق، يتفحص ابن الخال ندية من سافلها إلى عاليها، نظرة خبير، تعرف أن الوردة القديمة ما زالت تفوح بالرائحة، فى المرة الأولى لم تفهم مطلقًا، ولكنها لم تسترح لتلك التوصيلة، فى المرة التالية نفضت عن عقلها المتقد غبار الزمن، لتفهم مغزى دعوة الانبساط الجماعى.
حاولت «عبلة» إفهامها كيف يمكن للكلمات الصغيرة أن تُغير شيئًا ما للأفضل، كيف يمكن للرحلات القصيرة سد فراغ وملء عطش لأمثالهم، ببراءة كاملة، تعرف بل توقن ندية أن الغرض ليس أكثر من ذلك، مجرد رحلة صغيرة بسيارة كبيرة وصوت وردة الآتى من الثمانينيات يغلف كل شىء، يحاصره داخل السيارة حتى إذا ما انتهت الرحلة وانتهت الغنوة انتهى كل شىء، تعرف أنها تحتاج ربما أكثر من «عبلة»، لكنها لم تستطع مجاراة ذلك.

فى مصعد المصلحة العتيق تتعلق ندية كروحها بين السماء والأرض، تتعلق كعقلها الشارد بعمق أكبر هذه الأيام، كانت وحدها على غير العادة، لم تلحظ تعطل المصعد، لم تعد تلحظ الكثير مما يحدث، استفاقت على هزة عنيفة عندما كانوا يحاولون الإمساك بذلك المصعد المعلق بين الأدوار، تستكمل الصعود على الدرج، طلبوا منها عندما فتحوا الباب فى دور أدنى أن تفعل ذلك، تجر ذيل تنورتها السوداء مع أقدامها، تمنت أن يسكن الوجع فى الأسفل، فى أسفل جزء منها، تمنت أن يترك رأسها قليلًا، لم تكن منتبهة لرائحة الزمن الساكنة فى المصلحة، أخشاب الدرج القديم، الجدران الكالحة، لون الأرض الباهت، كل ذلك كان يفرز رائحة تلفتها يوميًا، رائحة تعرف معها أنها فى مكان آخر، ربما أقل إيلامًا بكل ما فيه من وجع، لم تكن رائحة زمن آخر، بل رائحة الزمن نفسه، تراكم الأزمان هنا، هذه المصلحة أرض التراكمات على كل حال، المستندات التى تعلو بعضها صفوفًا تختبئ خلفها الآلهة، الساعات التى يهربون جميعًا فيها من كل شىء، أغلبهم، وربما جميعهم لا يحبون فى هذا العمل سوى الهروب من العالم، ذلك العالم الضخم، الذى يذوبون فيه كمخلوقات صغيرة، لا ناقة لهم ولا جمل، عالم أكبر من قدراتهم الخارقة داخل جدران المصلحة، تلك الآلهة هنا، بشر ضعفاء حد البؤس بالخارج، أما ندية فقد أخذت حصة جديدة من بؤس العالم مؤخرًا، هاجسها الجديد منعها متعتها الوحيدة فى الحياة، متعتها الوحيدة التى تخصها هى وحدها، عادة ما تستمتع من أجل الصغار، فقط من أجل الصغار، أما نومها العميق مهربها الوحيد لم يعد كذلك بعد موت «عبدالمريد»، تستقبلها فى مدخل المكتب ابتسامة «عبلة»، لكنها لم ترها.
مقطع من «نوفيلا»: بالقرب من الحياة