رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلود اللحظات العابرة



من وضع أسس التصوير الحديث كله هو العالم العربى الحسن بن الهيثم الذى ولد قبل عشرة قرون وسجل اكتشافه فى كتابه المسمى «المناظر»
غرام الإنسان بالصورة قديم جدًا، فقد كانت الصورة وسيلته الوحيدة لتخليد نفسه، واستبقاء كل اللحظات العابرة فى مواجهة العدم، وقد استمر ذلك العشق من رسم الصور على جدران الكهوف، مرورًا برسم صور الحياة فى الأدب، وانتهاء بتثبيت كل اللحظات العابرة فى صور بالكاميرا ثم فى وسائل التواصل الاجتماعى.
يتجلى هذا الغرام بالانتصار على العدم فى طوفان الصور فى فيسبوك، وستصاب بالذهول من أشخاص يصورون أنفسهم قبل دخولهم حجرة العمليات بلحظة، يصورون أطفالهم فور وقوع حادث، لأن لديهم إيمانًا باطنيًا عميقًا بأن لحظات حياتهم كلها عابرة، وأنه لن يبقى فيها سوى الصور، هى وحدها الطريق إلى الخلود وإلى الانتصار على الزوال. أدرك الإنسان من قديم الأزل أنه ظاهرة عابرة، وأن بقاءه مؤقت، فراح يصارع بجنون للإفلات من هذا القدر. خلال ذلك كانت «الصورة» أهم أسلحة البقاء. فى أسطورة نرسيس اليونانية القديمة يرى الإنسان انعكاس صورته على سطح البحيرة، ويتشبث بها ويقع فى عشقها، ولعل تلك الأسطورة كانت أول تعبير عن أهمية الصورة فى تخليد الوجود العابر، واستبقاء الذات. وعندما اكتشف الإنسان الصورة كان يكتشف أداة للحرب على الموت، صغيرة، وبسيطة، لكنها الأداة المتاحة. والصورة أسبق للوعى من اللغة، فقد كان الإنسان يرى ما حوله قبل أن يكتب بزمن طويل، وكان يستوعب العالم عن طريق الصورة، لهذا أمست الصورة قلب العمل الأدبى السردى، وكان أنطون تشيخوف يقول: «لا تقل لى كم هو القمر مضىء بل أرنى وميضًا من الضوء على زجاج محطم». أما الناقد المعروف فيساريون بيلينسكى فكان يؤكد أن: «الفن هو التفكير فى شكل صور».
وقد قطعت علاقة الإنسان بالصورة مراحل طويلة، إلى أن اكتشف التصوير الفوتوجرافى، والكاميرا، لكن عددًا كبيرًا لا يعلم أن «الكاميرا» التى نستخدمها الآن، بكل أشكالها المختلفة داخل المحمول أو خارجه، هذه الكاميرا قد اشتق اسمها من كلمة «قمرة» العربية التى تعنى حجرة صغيرة، وذلك لأن من وضع أسس التصوير الحديث كله هو العالم العربى الحسن بن الهيثم الذى ولد قبل عشرة قرون فى العراق فى ٩٦٥ ميلادية، وسجل اكتشافه فى كتابه المسمى «المناظر».
وقطعت مبادئ التصوير رحلة طويلة تنقلت خلالها بين عقول مختلف العلماء من مختلف الجنسيات منذ أن طور العالم الأيرلندى روبيرت بويل الكاميرا البدائية حتى لويس داجير الفرنسى الذى سجل اختراع التصوير الفوتوجرافى باسمه فى ١٨٣٧. ومنذ أن عبر الأدب اليونانى عن نزعة الإنسان العميقة للصورة، إلى الكاميرا الحديثة، تأكد أن الإنسان بحاجة ماسة إلى الصورة، حاجته للبقاء حيًا، وحاجته للانتصار على الزوال، وحاجته للاستمرار.
لهذا تبدو الصورة سيدة الموقف، ليس فقط بظهور السينما، ولكن بالأخص بعد ظهور وسائل التواصل الحديثة من تويتر لفيسبوك وإنستجرام وغيرها. أحيانًا كثيرة ترى فى تلك الوسائل صورة مريض على أبواب حجرة عمليات نشرتها زوجته، أو مريض آخر وأنابيب الهواء فى أنفه بصحبة ابنه، وتتساءل: «بِمَ هم مشغولون؟ بالمريض أم بالصورة؟، بمصير ذلك الإنسان، أم بصورته؟». وفى كثير من الأحيان يأتينى الجواب أن الإنشغال بالصورة إنشغال بالإنسان، بديمومته، بتخليد لحظاته العابرة، الزائلة، المؤقتة، ومؤازرته فى صراعه ضد الزوال. وتبقى مأساة الإنسان فى أنه الظاهرة الأكثر إدراكًا للوجود، والأكثر وعيًا بقوانين الكون، لكن ذلك الإدراك لا يُمكّنه من البقاء أطول مما تبقى شجرة أو صخرة، ومن ثم يقاتل لكى يبقى بواسطة الصورة.