رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السادات والتيار الإسلامى «2-2»


عانى السادات فى السنوات الأولى من حكمه من عقدة عبدالناصر، أن تأتى بعد زعيم مثل ناصر فهذا صعب، وأن تريد أن تكون مختلفًا فهذا أصعب. كان السادات يخطط للعبور بحق، لكنه كان يرى أن الطريق إلى المستقبل يمر عبر البوابات الأمريكية، وأن الاتحاد السوفيتى إلى زوال، ولم يقتنع السادات يومًا بالاشتراكية. لذلك واجه السادات فى السنوات الأولى من حكمه بمن أطلق عليهم «أراذل المثقفين»، أى قيادات اليسار و«القلة المنحرفة» من الحركة الطلابية. هكذا سيرى السادات، وبحسه الريفى، أن فتح المجال للجماعات الإسلامية سيكون هو الحل، من وجهة نظره، لمواجهة قوى اليسار المتمركز بشكل أساسى فى الجامعات المصرية.
وهنا نأتى إلى ما يسمى الصفقة، حيث يؤكد البعض حدوث ذلك بينما ينفى البعض الآخر، لا سيما التيار الإسلامى، حدوث صفقة مع السادات:
«لو كانت هناك صفقة لعقدها السادات معى شخصيًا، بحكم مسئوليتى عن الحركة الطلابية الإسلامية، وأشهد الله أننا لم نعقد مع النظام أو مع أحد أى صفقة».
هنا نفى قاطع من جانب التيار الإسلامى على حدوث «صفقة» مع النظام. لكنى أرى أن المشكلة هنا فى معنى «صفقة» وما المقصود بها؟ إذ يرى هؤلاء أن الصفقة هى اتفاق مكتوب، أو حتى غير مكتوب بين التيار الإسلامى والسادات، والحق أن السادات بحكم خلفيته السياسية، ومعرفته الوثيقة بالإخوان، كان أذكى من السقوط المباشر فى حبائل ذلك، ونقصد عقد صفقة بشكل مباشر. لكن السادات بذكاء السياسى وحنكة الريفى أدرك أن تهيئة الأجواء لنمو التيار الإسلامى ستكون أكبر ضربة لليسار المصرى. هكذا تشكلت أجواء اتفاق المصالح وربما التسهيلات بين نظام السادات والتيار الإسلامى.
وهناك العديد من الحوادث والشواهد فى مذكرات «أبوالفتوح» نفسه تدعم ما وصلنا إليه، يروى أبوالفتوح عن ذكرياته عندما كان رئيسًا لاتحاد طلاب جامعة القاهرة، وكيف خرج الطلاب الشيوعيون بمظاهرة فى الجامعة، وغضب الدكتور صوفى أبوطالب، نائب رئيس الجامعة آنذاك، من الشيوعيين وكيف وجه د. صوفى أبوطالب السؤال إليه:
«إزاى تسيبوا الشيوعيين يقوموا بمظاهرة؟
فقلت له: هم أحرار فى ذلك.
فقال: إزاى؟ وأنتم متقدروش توقفوهم؟
وكأنه يحرضنا عليهم».
ثم يستدرك أبوالفتوح بعد ذلك متحدثًا عن الصدام بين الإسلاميين والشيوعيين مبررًا ذلك بقوله:
«كانت مواجهتنا مع الطلبة الشيوعيين تعبيرًا عن حسنا الجهادى أحيانًا الذى كان يدفعنا إلى السعى إلى تغيير المنكر باليد، أى بالقوة».
ويصل أبوالفتوح إلى نتيجة مهمة عن حدوث «اتفاق المصالح» بين التيار الإسلامى والسادات قائلًا:
«ما أتصوره أن السادات رأى أن يضرب التيار الشيوعى بطريقة تلقائية ودون مجهود منه، وذلك بترك التيار الإسلامى يعمل بحرية وينتشر دون وضع العراقيل أمامه أو ملاحقته.. وكانت الساحة مهيأة تمامًا لنمو هذا التيار وانتشاره عفويًا وطبيعيًا».
ولكى تكتمل الصورة علينا ألا نهمل المتغيرات العالمية وأيضًا البُعد الإقليمى، لا بد أن نتناول ظاهرة عودة التيار الإسلامى فى السبعينيات فى إطار صراع الفصل الأخير فى الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتى، والرؤية الأمريكية فى أن الإحياء الدينى يصب مباشرة فى ضرب اليسار، ولا بد أن السادات كان واعيًا لهذه السياسة الأمريكية.
وعلى الجانب الإقليمى لا ينبغى أن نغفل مسألة تصدير الوهابية إلى العالم الإسلامى وبصفة خاصة إلى مصر، يقول أبوالفتوح عن فترة السبعينيات:
«تأثرنا كثيرًا بالتيار السلفى فى مرحلة مبكرة من تكويننا الإسلامى. وأظن أن السلفية الوهابية أُقحمت على المشروع الإسلامى فى مصر إقحامًا.. كانت الكتب الوهابية (تهدى ولا تباع) وكنا نوزع الكثير منها على الطلاب دون أن نعلم ما فيها من مشكلات فكرية ومنهجية».
كذلك يشير أبوالفتوح إلى تأثير رحلات العمرة التى كان ينظمها اتحاد الطلاب للطلبة بسعر زهيد وأثرها فى إعداد كوادر وهابية فى صفوف الطلاب:
«كانت أحد روافد نقل الفكر الوهابى المتشدد، فقد كان بعض الطلاب يبقى هناك متخلفًا عن القدوم مع الرحلة ويظل حتى موعد الحج، أو على الأقل كان يلتقى علماء السعودية فيعود من الرحلة حاجًا معتمرًا وشيخًا سلفيًا وهابيًا».
هكذا حاولنا أن نفكك أسطورة أن عودة التيار الإسلامى فى السبعينيات كانت مجرد صفقة مع السادات، وكيف رأينا أن الأمر ليس على هذا النحو تمامًا، فالمسألة معقدة ومركبة، وربما تبدأ من هزيمة يونيو ٦٧، وموت ناصر واختفاء الزعيم وانهيار الحلم، وقصور فى بنية اليسار، ورغبة من السادات فى تجاوز مشروع عبدالناصر، هذا فضلًا عن صراع الحرب الباردة والسياسة الأمريكية فى الإحياء الدينى لمواجهة الاتحاد السوفيتى ومناطق نفوذه، وربما أيضًا الدور الإقليمى من حيث تصدير الوهابية إلى شتى بقاع المنطقة، ولا سيما مصر.
لكن ربما الدرس الذى لم يتعلمه السادات، أن موسى لا يمكن أن يتربى فى قصر الفرعون، إذ سينقلب موسى حتمًا، عندما يشب عن الطوق، على الفرعون، وهو الدرس الذى دفع السادات حياته ثمنًا له.