رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ترامب يطعن الأكراد لصالح ناخبيه وأردوغان




فى افتتاحية متوقعة إلى حد كبير، قام تنظيم داعش، صباح الأربعاء، بتنفيذ هجوم إرهابى ضد مواقع لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، فى مدينة الرقة السورية التى كانت ذات يوم العاصمة الفعلية للتنظيم. المقاتلون الأكراد الذين يقودون تلك القوات «الأقرب للنظامية»، أعلنوا أن الهجوم استهدف ٣ مواقع، وجرى بصورة متزامنة بغرض إيقاع أكبر قدر من الخسائر فى صفوف الغريم الذى تحالف مع القوات الأمريكية، وتمكن من إيقاع هزيمة حقيقية بالهيكل الرئيسى للتنظيم، الذى كان يفرض سيطرة كاملة على تلك المناطق لسنوات ٢٠١٤- ٢٠١٨.
هذا للأسف يجرى على خلفية الإعلان الرئاسى الأمريكى منذ أيام، عن مغادرة القوات الأمريكية مناطق الشمال السورى، والتى جرى بشأنها شد وجذب طوال أعوام مضت، تحديدًا منذ وصول دونالد ترامب للحكم، معلنًا فى ذلك الانقلاب على سياسات سلفه باراك أوباما وفريقه، البنتاجون منذ اللحظات الأولى لهذا الطرح الرئاسى الترامبى، أعلن عن تحفظه بشدة على خطوة عامة ليست لها ملامح وتفاصيل واقعية، مثل التى يطرحها الرئيس الأمريكى بهذا الشأن، حيث بدا ذلك جليًا فى الاستقالات والإقالات التى طالت قيادات عسكرية ومبعوثين للملف، فضلًا عن وزراء للدفاع ومستشارين للأمن القومى. جميع تلك المناصب طالتها تغييرات لشخصيات متتابعة، كان واضحًا خروجها على خلفيات عميقة مع البيت الأبيض، للحد الذى لم يسمح لها بالاستمرار، فربما الجميع اتفقوا على شىء واحد بأن المشهد فى الشمال السورى أكبر وأعقد من مجرد وجود قوات أمريكية فى مهمة خارجية مؤقتة، حتى وإن كان عنوانها المعلن «الحرب على الإرهاب»، مما يستلزم الخروج بعد إنجاز هزيمته نظريًا على الأقل.
مما اجتمع عليه معظم من شغل تلك المناصب الرئيسية فى الإدارة الأمريكية، بل وضعها البعض منهم على رأس الأولويات، هو كبح جماح وتقييد حركة الجانب التركى، خاصة مع بروز مطامعه للعلن منذ التاريخ الأول للأزمة فى العام ٢٠١٢. هذا الاعتبار ظل يرى أن التغول المباشر للقوات العسكرية التركية فى عمق الشمال السورى يحدث خللًا استراتيجيًا يصعب تداركه فى حال وقوعه، وجاء تمرير العمليتين السابقتين «درع الفرات» و«غصن الزيتون» على مضض عسكرى أمريكى. وعد الوجود العسكرى التركى فى مناطق عملياتهما، مؤقتًا ومقيدًا، كونه يجرى تحت أعين وحضور أمريكى يمكنه ضبط إيقاع أى أطماع مستقبلية. اليوم الصورة تختلف بشكل كبير، والإلحاح والابتزاز التركى على الجانب الأمريكى من أجل إنفاذ خطة «المنطقة الآمنة» لم يتوقفا منذ بداية العام، حيث بدا أخيرًا أنه تمكن من انتزاع الموافقة الأمريكية، مع بعض الاختلاف على التفاصيل الهامشية، التى لا تؤثر جديًا فى خطورة الخطوة الاستراتيجية. فاقتطاع جزء من الأراضى السورية؛ بات اليوم على مرمى حجر من مدى تحرك آليات الجيش التركى وجموح أردوغان.
«المنطقة الآمنة» التى هدد أردوغان بإنفاذها منفردًا، والذى صرح متعجلًا الجانب الأمريكى للموافقة، أعلن موقفه منها بوضوح الأسبوع الماضى خلال كلمة ألقاها فى الأكاديمية العسكرية بجامعة الدفاع الوطنى فى إسطنبول، عندما قال: «لم يعد لدينا صبر حيال تأسيس المنطقة شرق الفرات الممتدة على طول الحدود السورية التركية». ولم يستغرق الأمر ساعات بعد الإعلان الأمريكى بسحب القوات الموجودة بشرق الفرات، حتى أطلق الجيش التركى عملية «نبع السلام»، مخترقًا الحدود السورية، بدأت بضربات جوية وتدعمها نيران المدفعية ومدافع الهاوتزر، وتستخدم المكون السورى الموجود لديها «الجيش السورى الحر»، كرأس حربة برية، مدعومة بقيادات تركية ووحدات نوعية من الجيش التركى تجاه أول المدن السورية «تل أبيض»، حيث شهدت الأخيرة عملية نزوح كبيرة للمدنيين تجاه الداخل السورى، فرارًا من عمليات القصف المستعرة التى نفذتها الطائرات التركية.
المدينة الأخرى التى شهدت غارات عسكرية هى «رأس العين»، حيث تعرضت المنطقة بكاملها لقصف مدفعى عنيف ومتواصل، ما دفع بمئات السكان إلى النزوح، فى وقت أعلنت فيه «قوات سوريا الديمقراطية» بدء تركيا شن غارات ضد مناطق مدنية، متسببة فى حالة «هلع كبير» بين الناس. شهود العيان فى مدينة «رأس العين» تحدثوا عن عشرات المدنيين من رجال ونساء وأطفال، حملوا أغراضهم الشخصية خارجين من المدينة، البعض منهم فى سيارات، وآخرون لم يسعفهم سوى السير على الأقدام. فى الوقت الذى بدأ فيه انتشار لمقاتلين من «قوات سوريا الديمقراطية» فى المدينة، فى محاولة منهم لتأمين هذا الخروج، وحماية المدنيين وتخفيف حدة الخسائر فى صفوفهم. فى ذات الوقت كانت هناك طائرات تركية أخرى، تحلق فوق بلدة «الدرباسية» على مسافة ٥٠ كلم من رأس العين، فى طلعات جوية استطلاعية تنبئ بأنها ستشهد قصفًا مماثلًا، وربما توغلًا بريًا يجرى تأمينه.
افتتاحية مرعبة وشرسة وانتهاك صريح وواضح للسيادة السورية، يتصرف بموجبها أردوغان، وهو مؤمن الظهر على ما يبدو من الجانب الأمريكى، الذى يتعلل رئيسه بأنه فى هذا الإطار إنما ينفذ فقط وعوده الانتخابية. وهى ذريعة واهية إلى حد كبير بالنظر فقط إلى الانتقادات التى يتلقاها فى الداخل الأمريكى، والتى تشكل جناحًا عريضًا لا يقف عند حدود الحزب الديمقراطى المنافس، بل إن هناك العديد من الأصوات الجمهورية المستقلة التى وصفت قراره، خاصة فيما يخص تسليم الأكراد «لقمة سائغة» للنهم التركى باعتباره طعنة خيانة غير مبررة على الإطلاق، حتى وإن وصفها ترامب بأنها لحماية الإنفاق الأمريكى الضاغط على الإدارة. الأكراد فعليًا قدموا للولايات المتحدة الكثير، على الأقل انخراطهم فى محاربة «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى التى ظلت تتسلل إلى الشمال السورى، ودفع الكرد فاتورة خسائر باهظة «١١ ألف قتيل» من صفوفهم ومن المدنيين، حتى تمكنوا فى النهاية من الانتصار ليقف ترامب بعدها، ليعلن فى زهو انتصاره على الإرهاب وزوال «الدولة الإسلامية». وها هى الدراما الكردية تتلقى فصلًا مأساويًا جديدًا، ظل الجميع متحسبًا له وإن ظلوا يتوقعونه طوال الوقت، لكن لم يكن هناك مفر أمام الأكراد سوى المضى قدمًا فيما ذهبوا إليه، فقد كان المهدد الداعشى أقرب إلى أعناقهم من إمكانية الإجابة عن تساؤل: هل كان يحق لهم التحالف مع القوات الأمريكية من عدمه؟