رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: عايزينها تبقى ثورة


اللى ما يشوفش م الغربال يبقى أعمى.. هذا المثل الشعبى المدهش يلخص تلك الحالة الضبابية التى يعيشها البعض منا ولا يعترف بها، بل إنه يتمادى ويريد إجبارك على المشى خلفه فى تلك الحارة المسدودة، عايزك تشوف بعنيه.
منذ سنوات ليست بالقليلة وبالتحديد عام ٢٠٠٥، كان أن أصدرتُ مع عدد من الزملاء صحيفة صغيرة، كانت تطبع عشرين ألف نسخة اسمها «الإصلاح»، وتصادف أن كان مانشيت عددها الثانى «حزب كونداليزا عاكف لتغريب مصر». وكان التقرير الذى أخذنا مانشيت الصحيفة منه يشرح قصة لقاء جمع ما بين مرشد الجماعة التى لم تكن إرهابية وقتها بموافقة نظام الرئيس حسنى مبارك و«كونداليزا رايس».
وتضمن التقرير معلومات حسبتها خطيرة وقتها عن تقسيم يراعى عرقية بعض دول الشرق الأوسط، التقرير المنقول عن دراسة أمريكية أشار إلى تقسيم السودان لدولتين- لم تكن قد قُسمت بعد- وإلى عراق مشطور لثلاث دول، وإلى دولة غير مذهبية فى المملكة العربية السعودية، وإلى يمن ممزق وناقص السيادة.. إلخ.
وفى العدد التالى، كان أن التقط الزميل المبدع المصور أحمد حماد صورة لإعلان ملأ به المدعو أيمن نور شوارع وسط البلد، يقول: «اشترى حريتك بجنيه»! فى ذات الوقت الذى اعتصم فيه صحفيون بجريدة «الغد» التى كان يصدرها نور لعدم صرف رواتبهم، وحصلت «الصحيفة» على تقرير مهم يرصد تفاصيل الشقة التى كان يملكها نور فى الزمالك ولا يقل ثمنها عن خمسة ملايين، وحصلنا على تقرير مترجم يرصد علاقة المرشح الرئاسى وقتها بشركة فى جنوب إفريقيا أعتقد أن اسمها كان الحصان، واخترنا من التقارير الثلاثة مانشيت العدد «أكذوبة الرئيس الشحات».
ومنذ ذلك الحين، وأنا أستشعر ذلك الخطر الذى يحاصر إقليمنا، وعندما أصدرت كتابى «أغنية يناير.. ثوار ومزيفون» عام ٢٠١١، غضب بعض الأصدقاء من نبلاء تلك المرحلة، واعتبرنى بعضهم من «الفلول»، وكانت قناعتى أن كل مبررات الثورة على مبارك كانت موجودة، لكننى كنت أرى أن الأمر برمته فى سياق مؤامرة أكبر تحيط بالإقليم كله، وتأكد لى ما زعمت بعد شهور قليلة من اندلاع ما سُمى بثورة ليبيا، تأكد لى أن لا شىء يحدث صدفة.
من يومها وأنا لا أستغرب أى استهداف لمصر وشعبها وجيشها، وفى كل لحظة كانت عيناى على سوريا، كنت أتحسب تلك اللحظة التى ينهار فيها جيشها العظيم، جيش مصر الأول وبوابتها الشمالية، وحمدت الله أن موقف مصر من الحرب الدائرة فيها كان واضحًا لا لبس فيه، وأظن أن سوريا لو كانت هزمت فى معركة «القصير» تحديدًا لانتهى كل شىء.
ما أراه جليًا دون أى «غرابيل»، أن صراعًا يدور فى منطقتنا، نحن فى القلب منه حتى لو لم نكن طرفًا مباشرًا فيه. الطامعون كثر، وإسرائيل هى المستفيد الأول، هل يتذكر أحدكم ونحن الآن على أعتاب السادس من أكتوبر، تلك اللحظة التى أعلنت فيها السعودية وقف تصدير نفطها؟!
هل يتذكر أحدكم تلك اللحظة التى ذهب فيها رئيس الجزائر وفى يده شيك للروس ليأتى بالأسلحة للقاهرة؟، وهل يتذكر أحدكم تلك الكتيبة التى تحركت من بغداد لتشارك فى الحرب، وشقيقتها التى عبرت الصحراء من تونس إلى ليبيا إلى الهايكستب لتشارك فى الحرب، وتخوض واحدة من أشرف المعارك العربية فى «الأدبية»؟، هل يتذكر أحدكم نسور سوريا شركاءنا فى الجهة الشمالية؟ أتصور أن تلك اللحظة هى بداية الحرب وليست نهايتها وما يحدث الآن هو فصل فى المعركة.
لقد عرف «الصهاينة» قيمة نفط العرب وثرواتهم، وكان لا بد من استنزافها، عرفوا قيمة جيوش العرب وكان لا بد من تدميرها، وقد فعلوا ذلك مع العراق، أوعزوا لها بحرب ضروس طيلة ثمانى سنوات فى مواجهة إيران، حتى أُنهك جيش بغداد، وما إن انتهى كان أن زجوا به فى مغامرة دفع العراقيون وما زالوا يدفعون ثمنها، ثم استنزفوا أموال الكويت والسعودية والخليج وما زالوا، وبقيت مصر «شوكة» فى حلوقهم، فما كان لهم إلا اللعب تحت أظافر قدميها فى السودان وإثيوبيا، وبجوار أنفها فى ليبيا، ثم محاولة تفكيكها من داخلها، وبالطبع لم يجدوا أفضل من تلك الجماعة التى جاء بها الإنجليز لتغيير هوية شعبها فى منتصف عشرينيات القرن الماضى، ظنوا أن «الدين» الذى قال «ماركس» إنه أفيون الشعب، قادر على كسر «عروبتها».
وأسهمت حكومات متتالية، وغباء الحركات اليسارية ونرجسيتها، فى تغلغل تلك الجماعة التى ارتدت مسوح الدين فى عمق الريف المصرى، حتى إن وحدة القبيلة فى الصعيد لم تستطع كسرها وتفتيتها سوى تلك «الجماعات»، فصار من المقبول أن يكون «الأمير» من أفقر العائلات، ومن أجهل أفراد الجماعة، تلاشت سلطة «كبير العيلة»، أمام سلطة «أمير الجماعة».
وأسهمت القوى الغربية ذاتها بدعمها اللا محدود لرؤساء وملوك بعض البلدان العربية ضد شعوبهم فى «فساد عم وساد»، وأصبحت اللحظة مواتية تمامًا لأولئك الذين خططوا، وظنوا أنه حان «القطاف».
لكن المصريين أرادوا تغييرًا ليس على هوى أولئك المخربين وأسيادهم، أفسدوا تلك السيناريوهات، لكن ذلك الحزب وتلك الجماعة يغيرون جلودهم وسيناريوهاتهم، وليس من قبيل الصدفة ما يحدث فى الجزائر والسعودية والسودان، وأخيرًا ما حاولوا إتيانه فى مصر فى وقت واحد.
وأظن أن المعركة لن تنتهى قريبًا، ولا شك عندى فى أننا سننتصر، لكن أول أسلحة الحرب هو أن نعرف، المعرفة بداية الانتصار.
هذا عن حديث «المؤامرة»، أما حديث الثورة، فإننى أزعم أن المصريين يريدونها ثورة بناء، ثورة تنوير، فمن عرف الزراعة والغناء والعبادة، لا يعرف المؤامرات، ولا الخراب، هكذا أظن، وبعض الظن ليس إثمًا.