رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الله.. «نور على نور»



ذِكر الله تعالى ليس كما يظن البعض مقتصرًا على الدنيا، ففى الآخرة أيضًا هناك ذكر، وفى الحديث عن النبى، صلى الله عليه وسلم، أن «أهل الجنة يُلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس».
لكن ليس فى الجنة عبادة، وإنما التسبيح من الانبهار والسعادة، فإنه لا يتحسر أهل الجنة على شىء إلا على أوقات مضت فى الدنيا دون ذكر الله.
الإمام الشافعى يقول: إذا انكشف الغطاء يوم القيامة عن ثواب أعمال البشر لم يروا ثوابًا أفضل من ذكر الله، فيتحسر عند ذلك أقوام فيقولون: ما كان شىء أيسر علينا من الذكر، قالوا له: من أين لك بهذا؟ قال: من قول الله: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».
والله تعالى من صفاته العليا «النور»، فهو «نور على نور»، كما وصف نفسه بذلك فى القرآن الكريم، قائلًا: «اللَّهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ».
وكان النبى، صلى الله عليه وسلم، يدعو الله بقوله: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن»، ويقول: «إن الله لا ينام، ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفَع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصرُهُ من خلقه».
يقول ابن القيم: «والله سبحانه وتعالى سمّى نفسه نورًا، وجعل كتابه نورًا، ورسوله، صلى الله عليه وسلم، نورًا، ودينه نورًا، واحتجب عن خلقه بالنور، وجعل دار أوليائه نورًا تتلألأ».
«اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ».. أين ينزل هذا النور؟ «فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»، على من ينزل هذا النور؟ «رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ»، على الذاكرين والمصلين والمؤدين للزكاة، ومن لا يريد هذا النور؟ «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ».
«الله نور السموات والأرض».. ظاهر بذاته.. مظهر لغيره.. أبدع النور وبغير الله الكل مظلم معتم.. كل الوجود انعكاس لنوره سبحانه.. أنزل القرآن وأرسل الرسول لهداية الناس، وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان به.. «يا أيها الناس قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين».
الوجود كله يضىء بنور الله، من نوره يستمد نور الكون والنجوم والشمس والقمر، ولولا الله لأظلم الكون، فما أبدعه من رب، وما أعظمه من إله يتفضل على المخلوقات بنِعَم لا تُعد ولا تحصى، تتأملها قلوب الذاكرين وتغفل عنها قلوب المُعرضين.
يوم القيامة، وبعد أن تقوم الساعة، يسود الكون الظلام التام، بعد أن انطفأت الشمس والنجوم والكواكب والقمر، «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ»، فمن أين النور يومها؟.. نور الله ذاته.. «وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا».
«اللَّهُ وَلِىُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»، الذكر نور.. الصلاة نور.. حب الله نور.. فما أسعد من أضاء الله حياته بنور هدايته، وأخرج من ظلمات الضلال إلى نور الهداية برحمة منه وفضل.
هناك بعض الناس فى حياتهم قسوة وظلمة، على الرغم مما يملكونه مما يُظن أنه قد يجلب السعادة لهم من مال وجاه، لكنهم مع ذلك لا يهنأون بحياتهم ولا يسعدون بما لديهم، لا لشىء إلا لأنهم بعيدون عن ربهم، حياتهم معتمة تكسوها الظلمة، لا يوجد فيها نور الإله الأعظم، فإن النور من الله يضىء لك حياتك، فى قراراتك، اختياراتك، نور الله يجمّل الحياة الصعبة وينورها.
ومن جميل ما كان يدعو به النبى، صلى الله عليه وسلم، أنه كان يدعو الله تعالى بقوله: «اللهم اجعل فى قلبى نورًا.. وفى لسانى نورًا.. وفى وجهى نورًا.. من فوقى.. من تحتى.. عن يمينى.. عن شمالى.. من أمامى.. من خلفى.. اللهم اجعل لى نورًا». ذِكر الله نور فى القلب والحياة، إذا ذكرت الله قذف من نوره فى قلبك، ولذلك لما سُئل الإمام الحسن البصرى: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهًا؟ أجاب بقوله: «لأنهم خلوا بالرحمن، فألبسهم من نوره نورًا»، والمعنى أنه جعل النور ملازمًا لهم، كأنه من لباسهم، فالعرب تعبّر باللبس عن المُلازم، قال تعالى: «يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ».
يوم القيامة يغمر الله بنوره المؤمنين، الذين أخلصوا له فى العبادة، ولم يُشركوا معه أحدًا، فيقول عنهم، واصفًا حالهم ومما سيكونون عليه وقتها: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
وقد ساق النبى، صلى الله عليه وسلم، البشريات إلى المؤمنين مما سيمتن الله عليهم به من جميل إحسانه وفضله، جزاء لما قدموه فى الدنيا، فقال إنه «من المؤمنين من يضىء نوره من المدينة إلى عدن أبين فصنعا، فدون ذلك، حتى إن من المؤمنين من لا يضىء نوره إلا موضع قدميه».
اسألوا الله تعالى أن يلهمكم من نوره، وأن يضىء لكم بصيرتكم، حتى تضىء لكم حياتكم، ويجنبكم العثرات والزلات، وأن يأخذ بأيديكم إلى طريقه المستقيم، وأن يرزقكم حسن العمل، ويكتب لكم الإخلاص والقبول، فتكونون ممن أضاء لهم نورهم فى الآخرة، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.