رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كسبنا معركة فى حرب مستمرة



لقطاء، لا وطن لهم، صنعتهم «قوى الشر» قبل غروب شمس الاستعمار القديم، واستغلتهم لإحداث اضطرابات وتوترات مستمرة فى دول منطقة الشرق الأوسط، وغيرها، لتتمكن من السيطرة عليها واستنزاف ثرواتها، بمساعدة آلة دعائية جبارة، ومنظمات وهيئات دولية يعمل بعضها تحت ستار تقديم المساعدات الإنسانية والتنموية.
علاقات الدول لا تسير على وتيرة واحدة، ولا يحكمها غير المصالح، التى تفرض التقارب أو التباعد. وعليه، لم تعد الحروب مقصورة على العمل العسكرى التقليدى، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وصار العدو فى كثير منها مجهولًا، باستخدام تنظيمات أو كيانات يصعب ربطها بالدول التى تحركها، أو تستعملها. وهنا، أنصحك بمشاهدة فيلمين أحدهما روائى والآخر وثائقى: فيلم «حرب تشارلى ويلسون» الذى كتبه آرون سوركين وأخرجه مايك نيكولز وتشارك بطولته جوليا روبرتس وتوم هانكس. وفيلم «القصة الحقيقية لحرب تشارلى ويلسون»، الذى كتبه آرون بودين وتيرنس هنرى وأخرجه ديفيد كين. وكنا نتمنى أن يكشف المشير محمد عبدالحليم أبوغزالة، وزير الدفاع الأسبق، عن طبيعة الدور الذى لعبه، ويرد على الصورة التى ظهر بها فى الفيلمين، لكنه رحل بعد سنة تقريبًا من عرض الفيلمين، دون أن يفعل.
من الفيلمين، ستعرف بعض تفاصيل تمويل وتدريب الولايات المتحدة الأمريكية لـ«المجاهدين الأفغان». وستكتشف بسهولة أن أفغانستان عاشت، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضى، تجربة مريرة مع الحرب الأهلية تخللها الغزو السوفيتى سنة ١٩٧٩، وأنها كان يمكن أن تتجنب تلك التجربة، أو على الأقل تخرج منها بأقل الخسائر، لو صاغت الشخصية التى تحمى بلدها من الخراب والدمار، وتمنع القتل والتدمير والتخريب بالحجم الذى رأيناه وما زلنا نراه. لكن يبدو أن الشخصية الأفغانية ظلت فارغة حتى ملأها إرهابيو طالبان والقاعدة، بالضبط كما كانت عقول من تركوا أوطانهم وذهبوا ليشاركوا فى التخريب بزعم أنهم يخوضون حربًا مقدسة، بينما كانوا يخوضون بالوكالة حربًا لم تشعلها الولايات المتحدة، بل زادتها اشتعالًا.
برحيل السوفيت، سنة ١٩٨٩، انتهت الحرب بالوكالة، أو الحرب المقدسة المزعومة، لتستمر بعدها حروب داخلية، لم ينجح فى وقفها اتفاق بيشاور، سنة ١٩٩٢، بين الأحزاب والحركات المتناحرة، وكذا اتفاقية إسلام أباد، سنة ١٩٩٣، وحين ظهرت حركة طالبان، فى نوفمبر ١٩٩٤، تمكنت خلال عامين من السيطرة على البلاد، وبدخولها كابول سنة ١٩٩٦ أعلنت توليها حكم البلاد، وأزاحت برهان الدين ربانى وقلب الدين حكمتيار‎، اللذين كانا قد اتفقا على اقتسام السلطة والعمل المشترك. واستمرت سيطرة الحركة الإرهابية حتى الغزو الأمريكى، فى ٧ أكتوبر ٢٠٠١، ومن وقتها لا يكاد يوم يمر دون أن تقرأ أو تسمع عن مصرع البعض وإصابة البعض الآخر، إما فى هجوم شنته القوات الأمريكية أو قام به مسلحون مجهولون.
بعد غزوها لأفغانستان والعراق، لم تعد الولايات المتحدة تتدخل فيها بشكل صريح، بل عبر وكلاء، أو عملاء، كما فعلت فى سوريا والعراق واليمن وليبيا، و... و... و... وكان مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، إحدى أهم الخطوات نحو صياغة ما يوصف بـ«القرن الأمريكى»، الذى حاولت ثلاث إدارات أمريكية تنفيذه: إدارة كلينتون التى رفعت شعارات نشر قيم الديمقراطية والليبرالية، إدارة باراك أوباما التى رعت، ساندت، وموّلت ما يوصف بـ«الربيع العربى». وبينهما إدارة جورج بوش الابن، التى أطلعت رجب طيب أردوغان، على المشروع، مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، خلال زيارته الولايات المتحدة فى يناير ٢٠٠٤.
هذا المشروع، الحلم أو الوهم، تجاهل أو لم يضع فى حسبانه تغيير موازين القوة ومنظومة القيم الضابطة للعلاقات الدولية، وتجاهل أيضًا أن مشروع التوسع الأمريكى الذى انطلق بعد الحرب الباردة، انتهى عمليًا، وأن تجارب ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد قابلة للاستنساخ. وأن الولايات المتحدة ما عاد بإمكانها تطبيق استراتيجية التوسع، بالسيطرة على المناطق المضطربة أو المتوترة، بعد أن صارت تلك المناطق محل نزاع بينها وبين قوى أخرى صعدت على الساحة الدولية، واستطاعت أن تضع قواعد جديدة لمنظومة دولية موازية، وأن تتمدد شرقًا وغربًا لتملأ أى مساحة تتركها الولايات المتحدة، أو يتم إجبارها على تركها.
أخيرًا، وحتى تكتمل الصورة، نشير إلى أن المعسكر الغربى ظل يسيطر على ٦٠٪ من حجم الاقتصاد العالمى، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى سنة ١٩٩٥، التى بدأت بعدها هذه النسبة تتناقص حتى وصلت إلى أقل من ٤٠٪، والتناقص مستمر، مع انتقال قلب اقتصاد العالم تدريجيًا إلى خارج ذلك المعسكر الغربى، أو ما يوصف بـ«العالم الحر»، الذى ستظل حربه ضدنا مستمرة، عبر عملائه أو وكلائه، حتى بعد نجاحنا فى «شد السيفون» على ما تبقى من النفايات المنتمية إلى جماعة الإخوان أو المركوبة منها.