رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زوجة جلال أمين: رفض دخول مستشفى فى آخر حياته وقال «سيبونى وسط ولادى»

جريدة الدستور


لم يكن جلال أمين مجرد كاتب أو مفكر، بل شاهد على العصر والتاريخ والظواهر والتحولات الاجتماعية والثقافية التى حدثت فى بنية المصريين على مدى عقود، حتى تحولت كتبه وأفكاره إلى منارات ومراجع للمعرفة والثقافة المستنيرة.
الأكاديمى والاقتصادى الراحل صنع بالتوازى مع مسيرته الفكرية والأكاديمية تجربة إنسانية خاصة، مر خلالها بمحطات وأدوار عدة، بدءًا من الزوج حتى الأب ثم الجد، فأثمرت شجرته فروعًا من المحبة والجمال.
وفى الذكرى الأولى لرحيل جلال أمين، التى تحل الأربعاء المقبل الموافق ٢٥ سبتمبر، أجرت «الدستور» حوارًا مع زوجته التى تحمل الجنسية البريطانية «جان»، داخل منزلهما فى المعادى، كشفت خلاله عن وجه مختلف للمفكر الكبير، والكثير من أسرار تجربته الإنسانية، وأبرز المحطات التى واجهها الزوجان، وننقله على لسانها فى السطور التالية.


استعرنا سريرًا لتجهيز شقتنا.. ورفض حصول أبنائه على جنسية أجنبية

الصدفة هى التى جمعتنا وربطتنا ببعضنا فى إنجلترا، حيث تعرفنا عن طريق فتاة عراقية، وبعد سنتين كاملتين طُرحت فكرة زواجنا، ولم أقابل أى أزمة من مسألة ارتباطى بزوج عربى، لأن والدىّ كانا منفتحين تمامًا على الآخر، وتربيت على ذلك حتى فى فترة إقامتى بألمانيا.
اعترضت على الزواج جدتى لوالدتى، لذا قررت أن تتعرف أسرتى على «جلال»، وكنت على ثقة من أنهم سيحبونه، وحدث ذلك، وحتى جدتى تلك أصبحت أكثرهم حبًا وانبهارًا به، وكان يحب الجلوس معها والاستماع إلى قصصها لساعات، ثم تكللت علاقتنا بالزواج عام ١٩٦٤.
قررنا الحياة فى مصر، ووصلنا إليها فى مايو حيث كان الجو حارًا، واستقبلنا شقيق «جلال» فى بيته، لحين تجهيز البيت الذى سنقيم به فى المعادى، ثم انتقلنا إليه بعد تجهيزه، وكان عبارة عن طابق واحد، ولم يكن به سوى بوتاجاز صغير، وثلاجة اشتريناها بالتقسيط، واستعرنا سريرًا من شقيقه لم يكن فى حاجة إليه.
بعد فترة، بدأنا فى زيارة عائلته، وواجهتنى مشكلة اللغة، لكنى تعلمتها عن طريقه بعد ذلك، وتأقلمت على الحياة فى مصر، واستمر وضعنا صعبًا لمدة ٧ سنوات، حتى استطعنا فرش المنزل ليصبح مقبولًا، وكان اعتمادنا الأساسى فى التنقلات على ترام القاهرة، ولم تكن هناك مواصلات من المعادى إلى «وسط البلد»، وكنا نواجه صعوبة فى ركوب «التاكسى» آنذاك، فراتب «جلال» حينها من جامعة عين شمس كان ٣٥ جنيهًا فقط.
«جلال» ظل قلقًا بسبب عدم أدائه فترة التجنيد فى الجيش، وكان يتبقى له نحو عامين ويتجاوز السن القانونية للالتحاق، وكثيرًا ما قال لى: «إذا حدث شىء وأخذونى.. روحى لإخواتى وهما هياخدوا بالهم منك».
تأخرت فى الإنجاب بسبب رغبتى فى إتمام تعليمى للغة العربية، وظللت ٤ سنوات أفكر فى القرار، ثم أنجبنا ابنتنا الأولى «دانية»، التى اختار «جلال» اسمها بنفسه، ورفض الاسم الذى اخترته أنا، وهو «لارا».
حين وُلدت «دانية» كان «جلال» فى العراق، وذلك لأنها ولدت قبل ميعادها المحدد بـ١٢ يومًا، فتواصل مع إخوته وأصدقائه حينها وأوصاهم علىّ، وظلت البنت دون اسم لعدة أيام، حتى جاء واختاره.
وحين كبرت «دانية» رويت لها كل هذه التفاصيل، فقررت هى تسمية ابنتها بـ«لارا»، التى حازت على اهتمام وحب كبير من جدها «جلال»، وظهر ذلك جليًا على غلاف كتابه «رحيق العمر» الذى اعتبره الجزء الثانى من كتاب «ماذا علمتنى الحياة؟»، واستكمالًا له، وبمثابة سيرة ذاتية.
وفى فترة معينة، كانت تواجهنا مشكلة كبيرة مع الأبناء، تمثلت فى عدم توفر قصص للأطفال باللغة العربية، وكنا نرغب فى أن يتعودوا عليها، ونضطر للجوء إلى الحكايات بـ«الإنجليزية».
وحين وصل ابننا الصغير «أحمد» لسن الالتحاق بالمدرسة، كنت أرغب فى إدخاله مدرسة خاصة بمنطقة الهرم، وذهبت مع اثنتين من صديقاتى للتعرف على نظام الدراسة فيها، لكن «جلال» رفض إلحاقه بها، وكان معترضًا بشدة على نظام التعليم الخاص.
وحينما صدر قانون «ازدواج الجنسية» فرحت به، لكن فرحتى لم تكتمل بسبب رفض «جلال» إصدار جواز سفر أجنبى لأولادنا، ولا أعلم حتى الآن سبب رفضه حينها، لكنى صممت على قرارى وقررت إقناع الأبناء بأن حملهم الجنسيتين سيمنحهم الكثير من فرص السفر والتعليم والعلاج وغيره، ومع ذلك رفض.
بعد عدة سنوات، تغير رأى «جلال» وطلب منى أن أذهب للسفارة وأن أتخذ الإجراءات اللازمة لإصدار جوازات سفر أجنبية لأولادنا، وفرحت كثيرًا وسمعت كلامه وبدأت فى إجراء اللازم قبل أن يغير رأيه. وأتصور أن سبب رفضه كان شدة حبه وتعلقه بمصر، وحين وافق على الأمر، تكونت لديه رؤية معينة بأن حمل الجنسيتين فرصة مفيدة.
وبالنسبة لـ«جلال» الجد، لم يختلف كثيرًا عن الأب، فكان شديد التعلق بأحفاده، وهم «لارا» و«شريف» من ابنته «دانية»، و«مازن» من ابنه «أحمد»، وكنا ننتظر أن نتجمع فى جلسة واحدة كل عام فى مدينة «كامبريدج»، حيث لدينا شقة هناك.


مكتبه ثكنة عسكرية.. عازف كمان يحب سيد درويش.. ولم يهتم بالكرة

«جلال» كان يخلق أجواء صارمة فى وقت الكتابة والقراءة، إذ خصص لنفسه غرفة مكتب ووضع فى بابها «كالون» صعب الفتح، حتى لا يستطيع أبناؤه دخولها، لأنه لم يرد أن يشغله أحد عن الكتابة التى كانت لديه أهم شىء. كان مهتمًا كثيرًا بما يحدث فى مصر، وكانت الكتابة المتنفس الوحيد لديه للتعبير عن آرائه، وكان يكتب فى أى وقت، لكن كان دائمًا ما يفضل فترة الصباح.
وكثيرًا ما كان يكتب على شاطئ البحر، وفى فترة إقامتنا بـ«كامبريدج» كان دائمًا ما يكتب فى المطبخ، لأن الأسرة كلها كانت تتجمع فى الشقة، ولم يكن هناك مكان متاح سوى المطبخ.
لم يكن يمر يوم إلا ويكتب فيه «جلال»، واستمر هكذا حتى قبل وفاته بـ٣ أشهر، وتحديدًا فى يونيو ٢٠١٨، حين كتب آخر مقال له فى «الأهرام». وكان كتابه «ماذا حدث للثقافة فى مصر؟»، الصادر عن دار «الكرمة»، جاهزًا للنشر قبل وفاته، لكن الموت لم يمنحه الفرصة للفرحة بصدوره، وقررنا بعد وفاته أن يصدر فى يناير، الذى يتزامن مع عيد ميلاده ومع معرض القاهرة الدولى للكتاب.
القراءة كانت أهم أدواته، وكان دءوبًا على المعرفة، ولم يكتف بما درسه طوال حياته، وظل يحاضر بالجامعة الأمريكية فى القاهرة حتى ٢٠١١، فكان يتابع كل جديد فى الاقتصاد، كما كان محبوبًا من تلامذته وكل من يقرأ له.
وفى فترة وجوده فى الجامعة بإنجلترا، كان قلقًا مما يحدث فى مصر أثناء فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر، وعلى الرغم من سعادته بثورة ٢٣ يوليو وكان يراها إنجازًا حقيقيًا، لم يؤيد الزعيم الراحل فى جميع قراراته، وكان صريحًا وواضحًا ودائمًا ما يقول رأيه دون خوف أو قلق.
الاستماع للموسيقى أبرز هواياته، وكان يعزف على «الكمان»، وطلب من والده وهو صغير أن يشترى له «كمان»، ولو أخذ دروسًا فيها كان سيصبح عازفًا ممتازًا، وكان مستمعًا جيدًا لكل أغانى الزمن الجميل، خاصة سيد درويش وأم كلثوم ونجاة وعبدالحليم حافظ والشيخ إمام. اهتم كثيرًا بالسينما ومشاهدة الأفلام، لكن المتابعة قلت بالتدريج خاصة مع كبر السن وتأثر السمع، فأصبح لا يشاهد أفلامًا إلا إذا كان الحوار مكتوبًا أمامه على الشاشة.
أما بالنسبة لكرة القدم، فلم يهتم بها ولم يتابع أخبارها كالكثيرين، ولم تكن له علاقة بأى شكل من الأشكال بـ«السوشيال ميديا»، وكان يفضل التليفون الأرضى، وكان لا يرتاح للتكنولوجيا الجديدة، وكان شديد التمسك بالأشياء التقليدية.
وأتذكر موقفًا طريفًا له مع ابنته «دانية»، حينما أخبرته بوجود صفحة باسمه على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك»، وأبلغته أن هناك أعدادًا كبيرة تتابع تلك الصفحة، وحينها فرح بشكل كبير، لكنه لم يرغب فى التفاعل أو التعامل مع التكنولوجيا للتواصل مع متابعيه. وامتلك «جلال» جهاز كمبيوتر، لكنه نادرًا ما كان يستخدمه، وكان يلجأ لاستخدام البريد الإلكترونى فى أوقات معينة، ويواجه صعوبة فى استخدامه، وكان يفضل الكتابة بالقلم دائمًا.

دبلوماسى من بنما استولى على منزله وحول مكتبه إلى غرفة نوم للطباخ فقاومه بكل قوة حتى استرجع «الشقة»

كون «جلال» مكتبة ضخمة وفريدة موجودة فى منزلنا الحالى بالمعادى، وأفكر حاليًا فى مصيرها، وإمكانية تحويلها إلى مكتبة عامة، لأن معظم الكتب بها قيمة وغير موجودة حاليًا.
ولهذه المكتبة قصة غريبة، بدأت حين سافرنا، أنا و«جلال»، فى مهمة عمل إلى بيروت لمدة عام، وقررنا تأجير المنزل لحين عودتنا لدبلوماسى من بنما يدعى «باتيستا». لكن المفاجأة أن ذلك الدبلوماسى لم يوافق على ترك المنزل بعد عودتنا، وحاولنا معه بكل الطرق لكنه رفض، فجن جنون «جلال» خاصة عندما سمع من الجيران أن طباخ «باتيستا» ينام فى مكتبه، واضطر لتأجير شقة مفروشة، وقضى بها نحو ٤ أو ٥ أشهر، وباللجوء إلى الشرطة تمكن فى النهاية من استرجاع الشقة.
«جلال» كان قويًا وشجاعًا للغاية، لكنه كان طيب القلب، وظهر ذلك جليًا فى لبنان، حينما مرضت إحدى العاملات فى المنزل وأحضر لها طبيبًا ووقف بجانبها بشهامة، وكان متعاونًا إلى أقصى درجة.
ودعم «جلال» كل من حوله، ولم يبخل مرة على أحد سواء بمعلومة أو رأى، وكان شخصًا متماسكًا وسريع التصرف فى المواقف الحرجة، وعندما كان يلجأ له أحد ليطلب شيئًا كان يقول له: «هشوف وهرد عليك»، فكان يركّز جيدًا ولا يأخذ قرارًا إلا بعد التمعن الشديد.
ولم يضع «جلال» نظامًا غذائيًا خاصًا لنا، لدرجة أن نمطى الصارم فى الغذاء تغير تمامًا بعد زواجى منه، فأصبحت أتناول ما أشتهيه حتى ولو بكميات كبيرة، وتعودت على تناول الفاكهة بكثرة، وبأكثر من نوع فى وقت واحد، وكان ذلك عكس ما تعودت عليه فى إنجلترا.
«جلال» لم يكن محبًا للأطباء أو المستشفيات، حتى فى آخر أيامه رفض دخول المستشفى، وكان يرغب فى البقاء فى منزله بين أولاده الذين كانوا يوفرون له كل ما يحتاجه دون اللجوء لمستشفى أو طبيب.
فى أيامه الأخيرة لم يكن يتكلم كثيرًا، كان معظم الأطباء ينصحوننا بدخول المستشفى، لكنه كان يرفض. وحين توفى ترك فراغًا كبيرًا جدًا، لكنه «كان تعبان.. وكان الأفضل إنه يرتاح».