رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوحش يبتلع الجميلة


«١»
سأغمض عينىّ كى لا أراك..
سأغلق فمى كى لا ينطق اسمك..
لكنى سأُبقى أذنىّ مشرعتين كى تلتقطان حفيف صوتك..
خيباتى الكبيرة لم أبُح بها، غرستها فى قلبى، فنمت وأزهرت أشجارًا وثمارًا وورودًا حمراء خدعتنى وأنستنى جذورها.. الورود والتفاحات الحمراء التى ترتوى من دمى كانت نهمة، شرهة، وجسدى الذى فقد أوردته استوى مرجًا أخضر تحت نافذتى.
أحطتك من كل جهة، دون أن أعرف أنك تعجزين عن النظر للداخل، يبدو وكأن لا جدران لك ولا أعمدة تستطيعين ترتيبها.. ذاكرتك ثقوب، مرت منها كل أيامى دون أثر.. والوقت قماشة عريضة لا تعرفين كيف تطوينها، أو تفصّلين منها فساتين مزركشة، فتظلين تتأرجحين فى التكرار، وتحملينه رايات لمعارك خاسرة.. كل المعارك صلصلة خاوية، وأنت لا تستطيعين دفن موتاك أو تطبيب نزف المجروحين.
«٢»
القطار الذى فاتنى أخذت أجرى خلفه، كل ما كنت أتمناه أن ألحق به فى المحطة التالية، عندما وصلت للرصيف الصحيح كان القطار قد بدأ ثانية فى التحرك.. للحظة يعترينى اليأس، لكنى ألتقط أنفاسى وأستعيد رباطة جأشى، فأخرج مسرعة، أستقل حافلة، تاكسى، موتوسيكل، عربة نقل بضائع.. وفى كل المرات أفوته لسبب قهرى.. ظل القطار يخايلينى، وفى بعض الأحيان كنت أتحرك محاذية له، حينما تكون السكة الحديدية موازية للطريق العام، أشير للركاب، يعتقدون أننى فى سباق، فيهللون، ويشجعون، فقط سائق القطار هو الوحيد الذى لم ينتبه لى..
حقًا وصلت لوجهتى، لكنى أبدًا لم أركب القطار الذى أردت.
«٣»
مضى سبتمبر، مضت الأيام التى تأمن أيامها من قيظ الصيف وبرودة الشتاء، وهى امرأة وحيدة تلتحف بظل كافورة عتيقة دائمة الخضرة، من شرفتها تتابع العمال الذين يقلّمون الأشجار المغروسة فى جزيرة الطريق أمام بيتها.
أى حزن يضرب الروح لمرأى الأشجار عارية فى سبتمبر، لتساقط الفروع حية خضراء غضة، تخاف أن يدوس عليها أحد وهى التى تابعت خريطة نموها، شهورًا وأيامًا، الآن تراها شابة نضرة، تنزف مستقبلها على الرصيف، مع ضربات مقص العمال، يتصاعد الإيقاع الحزين، يعيد لها صدى ذكريات نسيتها، أو تناستها، لكنها تطاردها كل ليلة.. تذكّرها بنفسها فى أحلام غير مكتملة، شىء ناقص، مبتور، غائم، موعد دواء، شعلة بوتجاز تركتها مشتعلة، طعام يجب وضعه فى الثلاجة، يتردد صدى الحلم فى نفسها، ما الذى كان عليها فعله ونسيته؟، أى صفحة أهملتها من كتاب الكيمياء فى الثانوية العامة؟، يخايلها وجه غائم لكن صوته واضح «حاولت أحبك، ما قدرتش»، مَن هذا الرجل؟، زميل دراسة؟، ابن الجيران؟، طفل يبتسم لها وقطار يتحرك، لا تلحق بالقطار، الطفل جالس فى العربة، يلوّح بيده وهى تجرى على الرصيف، تسرع بكل قوتها ملهوفة على الطفل، وهو مبتسم مطمئن، لاهثة مذعورة، تتوه فى زراعات واسعة، مساحات شاسعة، تشاهدها فقط على شاشة السينما، والقطارات تحاذيها ذهابًا وإيابًا.
تستيقظ فزعة، تجرى لحجرة ابنتها، ليس لها ابن، فأى طفل نسيته؟، تعيد الغطاء المنزاح إلى وسط طفلتها، تتأملها، يتصارع فى داخلها الرجاء والخوف، وعندما يأتى الصباح وتركب صغيرتها «الأوتو» تستودع الله ابنتها خالية البال، لكنها حين تخلو بنفسها تخايلها كفوف مبتورة، فتغتم.
تعود لنومها، فيحضر ما نسيته خبيثًا، مراوغًا، وتعود القطارات خالية من ضحكات الصحاب، من عناق أيدى العشاق الصغار.. من أحد القطارات يرتفع عويل مكلومين، لا تظلّهم سكينة الموت بل تعصف بهم ريح الغضب فلا يكاد يستقر لهم مقام على الأرض، يقف قطارهم الذى لا يتحرك أمام رجل بهىّ الطلعة، ينزل الغاضبون، يلتفون حول الرجل، يسألونه: ندعو فلا يُستجاب لنا، فيعيد الرجل الإجابة التى ذكرها لجدودهم من قبل.
تقف السيدة حائرة، هل تلحق بالرجل؟، هل تسأله تفسير حلمها؟، لكنها ما زالت نائمة، لا تمتلك إرادة حركتها، هى فقط تتحرك وفق صانع أحلامها، تستسلم السيدة لتيهها، تسند ظهرها لجذع نخلة.
ويأتى أكتوبر: يطيب البلح، لكنها الأيام لا تطيب.