رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عرابى.. أى تاريخ يحتاجه الوطن؟


عندما يتحققون من شخصية الإنسان فإنه يقدم لهم بطاقته، أو جواز سفره، أما البطاقة التى تبرزها الأوطان فى وجه العالم وهى تعرف نفسها، فهى شعراؤها وأبطالها. وفى أحيان كثيرة يروى الخيال الشعبى البطولات ويسقيها ويخلق نماذج الثوار والمتمردين، ويغض النظر عن الوقائع الصغيرة، مُتجهًا إلى الأمل، وإلى استنفار طاقة الشعب، وحشده بالقدرة على الجسارة.
أضفى الخيال الشعبى البطولة على الكثيرين، وخلق بعضهم من أمنياته، ومنهم الزناتى خليفة، وأدهم الشرقاوى، والظاهر بيبرس، وأبوزيد الهلالى، وغيرهم، وكان أحمد عرابى، زعيم أول ثورة مصرية فى العصر الحديث، أحد أولئك الأبطال الذين تغنى بهم الناس، ليس لأنه انتصر على الخديو توفيق، ولا لأنه دحر الغزو البريطانى، لكن لأنه رفع رأسه وتمرد، فعشقه الناس إجلالًا للانتفاضة والتمرد والثورة حتى لو تحالفت الخيانة والإقطاع والاستعمار على قطع رأس الثورة. أعلن عرابى الثورة فى التاسع من سبتمبر ١٨٨١، حين وقف أمام قصر عابدين فى مواجهة الخديو، مطالبًا بالمساواة فى المعاملة والترقية داخل الجيش بين المصريين والأتراك والشركس، وقيام مجلس نواب وطنى، وزيادة عدد الجيش إلى ١٨ ألف عسكرى. وكانت تلك أول ثورة مصرية فلاحية ديمقراطية فى تاريخ مصر المعاصر. وردد التاريخ صيحة عرابى الخالدة: «لقد خلقنا الله أحرارًا، لا نورث، ولا نستعبد بعد اليوم». وتطورت الأحداث بسرعة ولم يكن لبريطانيا أن تترك مصر، مزرعة القطن، ولا أن تترك قناة السويس، فظهر الأسطول البريطانى الفرنسى فى مياه الإسكندرية صيف ١٨٨٢ ليقمع الثورة، ثم وقعت معركة التل الكبير بين عرابى وقوات الاحتلال فى ١٣ سبتمبر ١٨٨٢ فى الواحدة والنصف فجرًا، واستغرق القتال نحو ثلاثين دقيقة فقط، بدأت الثورة من بعده تنحسر حتى نفى عرابى وزملاؤه إلى جزيرة سريلانكا، حيث بقى هناك منفيًا عشرين عامًا كاملة، وعندما رجع إلى مصر عاد وبيده شجرة لم تعرفها مصر من قبل هى المانجو. وتوفى عرابى عام ١٩١١ ولم يكن يفصل بينه وبين ثورة ١٩ سوى عدة سنوات، لكن لم يكتب له أن يشهد الحلقة الثانية من استمرار ثورته. وعندما هزم عرابى كتب أحمد شوقى أمير الشعراء، لأنه شاعر الأمراء، يقول لعرابى: «صغار فى الذهاب وفى الإياب.. أهذا كل شأنك يا عرابى؟». ورد عليه أحمد عرابى فى مذكراته يقول له: «كبار فى الذهاب وفى الإياب.. برغم أنف أولاد الكلاب»! لكن الصوت الذى لم ير فى ثورة عرابى سوى «صغار»، هو الصوت الذى قال إن الثورة «هوجة»، وهو الصوت الذى شن على عرابى حملة بدعوى أنه «خائن»، لأنه جلب الاحتلال الإنجليزى على مصر، مع أن بريطانيا كانت تحتل مصر فعليًا واقتصاديًا قبل ذلك. وما زالت أصداء ذلك الصوت الكريه تتردد حتى بعد مائتى عام! وما زال يوسف زيدان وغيره يرددون صوت القصر والإقطاع والاستعمار وتحقير البطولات المصرية، لا لشىء إلا لتحطيم كل ما يمكن للروح المصرية أن تعتمد عليه فى رحلتها نحو التحرر والتقدم. يقول زيدان فى برنامج «كل يوم» على قناة on e، بتاريخ ١٥ أكتوبر ٢٠١٧: «أحمد عرابى ضيع البلد ودخلنا فى استعمار سبعين سنة.. عرابى ولا عنده أى حاجة وعامل لى غاغة وعاوز يحكم». وليس المقصود بما يكرره زيدان وآخرون هو تحرى الحقيقة التاريخية، بل تحطيم كل رموز المقاومة داخل وجدان الناس، ونزع البطولة عن أبطال الشعب، ولو كان نصف تلك البطولة خيالًا. إنهم لا يتحرون الدقة من باب التأريخ، ولا من باب التدقيق، لأن من يريد أن يؤرخ لا يقول عن ثائر عظيم إنه «عامل لى غاغة»، فتلك لغة الأزقة وليست لغة علماء، لغة الذين اتهموا عرابى بالخيانة منذ اللحظة الأولى، لأنه تجرأ ورفع رأسه فى وجه الأتراك أصحاب البلاد، لغة الخدم الذين يدافعون عن أسيادهم. التاريخ الذى يلزمنا، ليس فقط الوقائع، والأحداث، وتسلسل المعارك، التاريخ الذى يلزم الشعب المصرى وكل شعب، هو ذلك التاريخ الذى يفوح ببطولة أبنائه، وفرسانه، حتى لو كانت تلك البطولة من نسج الخيال الشعبى، ومن أحلام الفقراء. ويظل عرابى فى الوجدان، وتظل صورة الفارس على حصانه فى القلب، وتظل صيحته محفوظة لا ينتهى صداها: «لسنا عبيدًا ولن نورث بعد اليوم». أما الذين يسعون بدأب لتحطيم رموز الشعب وأساطيره فلا شىء يقال لهم سوى إن عرابى ورفاقه كانوا: «كبار فى الذهاب وفى الإياب.. برغم أنف أولاد الكلاب».