رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المفقودون فى الأرض



حبيبةُ قلبكَ، يا ولدى، نائمةٌ فى قصرٍ مرصود. والقصرُ كبيرٌ يا ولدى، وكلابٌ تحرسُهُ.. وجنود. من يدخُل حُجرتها مفقود.. من يطلبُ يَدَها، من يَدنو من سورِ حديقتها، مفقود. من حاولَ فكَّ ضفائرها، يا ولدى، مفقودٌ.. مفقودٌ.. مفقود.
مع هذا الذى لم يستجب لنصيحة قارئة فنجان الأستاذ نزار قبانى، قدّرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان، التابعة للأمم المتحدة عدد المفقودين فى العالم بحوالى ٤٦ ألف حالة. وبمناسبة اليوم العالمى للمفقودين، أصدرت المنظمة الدولية بيانًا، فى ٣٠ أغسطس الماضى، أعربت فيه عن قلقها إزاء تزايد أعدادهم. مع أن هذا الرقم هو تقريبًا الذى يتم الإعلان عنه منذ بداية تسعينيات القرن الماضى. تحديدًا، منذ تفككت جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية بعد حروب استمرت عشر سنوات.
بعد توقيع اتفاق «دايتون» للسلام الذى تم بموجبه إنهاء الصراع فى يوغوسلافيا السابقة، ودخوله حيز التنفيذ، تم إنشاء لجنة دولية لشئون المفقودين بمبادرة أطلقها الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون فى مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى، سنة ١٩٩٦، الذى انعقد فى مدينة «ليون» الفرنسية. وتمّ تكليف تلك اللجنة بتحديد هوية حوالى ٤٠ ألفًا اختفوا فى ظروف مجهولة بين عامى ١٩٩١ و١٩٩٥. ومن وقتها، خفت دور الفريق الذى أنشأته الأمم المتحدة، فى فبراير ١٩٨٠، والذى كان من المفترض أن تكون مهمته الرئيسية هى «مساعدة الأسر على تحديد مصير أو مكان وجود أفراد يقال إنهم اختفوا».
هذه اللجنة، اللجنة الدولية لشئون المفقودين، سعت إلى تطبيق معايير تعددية وديمقراطية على العملية الشاملة لتحديد مواقع وهويات الأشخاص المفقودين. وفى البوسنة والهرسك، عمدت اللجنة إلى ضمان دعم عملية حل قضايا المفقودين، سياسيًا وإداريًا، وإلى ضمان إتمامها بعدل وإنصاف. ونجح إطار السياسات الذى تم تطويره فى البوسنة والهرسك فى دمج المعايير التقنية الإدارية والدولية المحايدة. وقد استندت العملية المؤسسية والتشريعية والتقنية الشاملة فى البوسنة والهرسك إلى إصدار قانون بشأن الأشخاص المفقودين سنة ٢٠٠٤، وإنشاء معهد الأشخاص المفقودين (MPI) سنة ٢٠٠٥، وغيرها من المبادرات التى تم تنفيذها برعاية الهيئات التشريعية والسلطات القضائية هناك. وقيل إن تلك اللجنة حققت إنجازات غير مسبوقة.
استثمارًا لهذه الانجازات، واصلت اللجنة عملها مع الحكومات ومنظمات المجتمع المدنى، والمؤسسات القانونية، والمنظمات الدولية، فى جميع أنحاء العالم. وشاركت بفاعلية فى تطوير المؤسسات وقدرات المجتمع المدنى، وفى توفير الدعم التقنى وتطويره لتحديد مواقع وهويات الأشخاص المفقودين. ومنتصف ديسمبر ٢٠١٤، قام وزراء خارجية هولندا والمملكة المتحدة والسويد وبلجيكا ولوكسمبورج بتوقيع معاهدة تمنح اللجنة وضعًا قانونيًا جديدًا. وبموجب هذا الاتفاق تم اعتبار اللجنة منظمة دولية تستند إلى هذه المعاهدة، وتمتلك نظام حوكمة وقدرات دولية خاصة بها. وقد نصت المعاهدة على تشكيل هيكل تنظيمى جديد. واشترط اتفاق إطار العمل قيام اللجنة بإنشاء مقر لها فى لاهاى، وفى ٢٠١٧ تم تنفيذ تلك الخطوة.
لدى اللجنة مركز متخصص للاستفسار عبر الإنترنت (OIC)، ونظام إدارة البيانات الخاصة بتحديد الهوية (iDMS) والذى يقوم بإدارة جميع البيانات المتعلقة بإيجاد الأشخاص المفقودين. وتدير اللجنة أكثر معامل تحليل الحمض النووى البشرى إنتاجية على مستوى العالم. وإلى الآن تم تحديد هوية أكثر من ١٩ ألف مفقود حول العالم بمساعدة اللجنة التى توفر أيضًا برامج تعليمية وتدريبية للجهات الحكومية، القضاة، المدّعين العامين، ممارسى الطب الشرعى، المنظمات غير الحكومية، وعائلات المفقودين.
لمصر، طبعًا، نصيب من المفقودين، غير أن غالبية من تم الإبلاغ عن اختفائهم، ظهرت جثثهم، لاحقًا، فى سوريا أو العراق بعد قتالهم فى صفوف التنظيمات الإرهابية هناك. أو بعد مواجهات مع قوات الشرطة هنا. وفى كتاب «المصيدة» أوضح زميلنا وصديقنا محمود بسيونى كيف تم استخدام مصطلح «الاختفاء القسرى» فى سياقين ابتعدا تمامًا عن مفهوم تحقيق العدالة وحقوق الإنسان: التغطية على انضمام عناصر إلى تنظيمات إرهابية، والمكايدة السياسية مع الدولة المصرية، بعد ثورة ٣٠ يونيو. وبالوقائع والأدلة استعرض «بسيونى» عددًا من الحالات تسببت فى تشويه المصطلح، وفى إرباك المنظمات وأجهزة الدولة المعنية بإجلاء مصير المفقودين.
الاختفاء القسرى، Forced disappearance، طبقًا لتعريف المحكمة الجنائية الدولية، هو «إلقاء القبض على أى شخص، أو احتجازه، أو اختطافه من قبل دولة أو منظمة سياسية، أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه، ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة». ونتمنى أن تكون لاحظت أننا حرصنا على استخدام صفة «المفقودين» ولم نستخدم مصطلح «المختفين قسريًا».