رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جوزيبى كونتى.. إلى اليسار دُر!


معجزة سياسية جديدة تحققت فى أوروبا، بأداء الحكومة الإيطالية الجديدة قسم الولاء أو اليمين الدستورية، صباح أمس الخميس أمام رئيس الجمهورية، سرجيو ماتّاريلا. ولم يبقَ أمام تحقق المعجزة، أو بدء عمل الحكومة الجديدة، غير مثول الوزراء، أمام مجلسى النواب والشيوخ، لطلب الثقة، يتقدمهم جوزيبى كونتى، رئيس الوزراء المستقيل، المكلّف بتشكيل الحكومة الجديدة.
خلال شهر تقريبًا، ودون إجراء انتخابات، انتقلت الحكومة الإيطالية، تحت رئاسة الشخص نفسه، جوزيبى كونتى، من اليمين إلى اليسار: من حكومة يمينية قومية، توصف بأنها متطرفة، تعارض الاتحاد الأوروبى، إلى حكومة يسارية الأهداف، والميول، والبرامج، منحازة للاتحاد. كما انتقل ماتيو سالفينى، رئيس حزب الرابطة، نائب رئيس الوزراء، وزير الداخلية السابق، من قلب دائرة الضوء والسلطة إلى الظل أو الهامش.
سالفينى ظل، طوال الأربعة عشر شهرًا الماضية مسيطرًا على المشهد السياسى، وبدا أنه كان يتأهب لوضع يده بالكامل على مقاليد الحكم والسلطة، خاصة بعد حصول حزب الرابطة فى انتخابات البرلمان الأوربى التى جرت فى مايو الماضى، على ٣٤.٤٪ من مقاعد إيطاليا، أى ضعف النسبة التى حصل عليها فى الانتخابات المحلية وضعف نسبة حركة النجوم الخمس، شريكته السابقة فى الائتلاف الحاكم الذى انهار.
بعد مفاوضات استمرت أسابيع، اتفقت حركة «خمس نجوم» مع حزب «الرابطة»، أواخر مايو ٢٠١٨، على تكليف جوزيبى كونتى، أستاذ القانون والمحامى والسياسى غير المتمرس أو المُستجدّ، بتشكيل الحكومة. ووافق رئيسا الحركة والحزب، دى مايو وسالفينى، على القيام بتسويات بشأن النقاط الرئيسية فى مشروعهما السياسى، وتوصلا إلى نقاط التقاء حول قضايا مهمة، وحول مضمون البرنامج الحكومى الذى يقوم على اثنين من أبرز المحظورات فى التوجيهات الأوروبية، لتحقيق الاستقرار المالى وترسيخ أسس النمو الاقتصادي: زيادة الإنفاق العام، وخفض الضرائب، إضافة إلى طرد أكثر من نصف مليون مهاجر غير شرعى.
خلال الولادة المتعثرة للحكومة السابقة، الحكومة رقم ٦٧ بعد الحرب العالمية الثانية، كتبنا هنا، فى ٢٩ مايو ٢٠١٨، أن الاتحاد الأوروبى، الأسواق المالية، و«عائلات البلاد» وشركاتها، لن تسمح بوأد النظام السياسى الذى حكم إيطاليا منذ نهاية الحرب. وتوقعنا أن يتم التحايل للقفز إلى الحكومة رقم ٦٨ فى أقرب وقت ممكن. غير أننا كنا نتوقع أن تحدث هذه القفرة عبر انتخابات مبكرة، ولم يكن يخطر على بالنا أو بال أحد أن تتحقق بمثل هذا السيناريو غير المسبوق.
تأكيدًا لما توقعناه، وتوقعه آخرون، تفاعلت أسواق المال الأوروبية بمنتهى الإيجابية مع التشكيل الجديد للحكومة، وأن يتراجع سعر الفائدة على سندات الخزينة الإيطالية إلى نصف ما كان عليه عند التشكيل السابق. والإشارة هنا قد تكون مهمة إلى أن المفوضة الأوروبية، كانت قد طالبت «الإيطاليين» و«العائلات السياسية الإيطالية المؤيدة لأوروبا»، قبل الانتخابات الماضية، بالتوحد ضد حركة «خمس نجوم»، لكى ينقذوا البلاد مما وصفته بـ«السيناريو الأسوأ»، بزعم أن تقدم الحركة، سيحول دون تشكيل حكومة «فاعلة»، وسيتسبب فى حدوث شلل فى إيطاليا، وسيجعل أوروبا كلها «تشهد رد فعل حادًا فى الأسواق المالية». وبالفعل، قامت وكالات التصنيف الائتمانى بخفض درجة إيطاليا، التى هى أساسًا على بعد خطوتين من القاع، ولم تتوقف التحذيرات من الكوارث الاقتصادية التى قد تتسبب فيها أى «حكومة شعبوية».
الانتخابات الإيطالية تقوم على مزيج معقد من القوائم النسبية، تسمح بالحصول على أغلبية المقاعد بمجرد الفوز بـ٤٠٪ من الأصوات، بموجب قانون تم «تفصيله»، استهدف بشكل أساسى منع تقدّم حركة «النجوم الخمس»، التى تأسست منذ تسع سنوات، لتكون بديلًا للأحزاب والمنظومة السياسية السائدة، لكن الرياح أتت بما لا تشتهى سفن مَن قاموا بتفصيل القانون، وفازت الحركة فى الانتخابات الماضية بأكثر من ٣٢٪ من الأصوات، أى بأكبر كتلة نيابية لحزب واحد. بينما فاز الحزب الديمقراطى «يسار الوسط» بأقل من نصف هذا النسبة تقريبًا. ومع ذلك، تساوى عدد الحقائب الوزارية بين طرفى الائتلاف الجديد، وتراجع لويجى دى مايو، زعيم «النجوم الخمس»، عن إصراره على تولّى منصب نائب رئيس الوزراء، مكتفيًا بحقيبة الخارجية، ليصبح الوحيد بين نظرائه الأوروبيين الذى لا يحمل شهادة جامعية. وكان «دى مايو» فى الحكومة السابقة، نائبًا لرئيس الوزراء إلى جانب توليه وزارة العمل والاقتصاد.
الديمقراطية لم يعد معناها، إذن، أن يختار الشعب، بل ما يختاره الاتحاد الأوروبى، الأسواق المالية، أو «عائلات البلاد» وشركاتها. والجديد، الذى أثبتته المعجزة الإيطالية، هو أنه لم تعد هناك حاجة استبدال «صاد» بـ«سين» أو عزل «ألدو» والإتيان بـ«شاهين»، فى وجود سياسيين غير متمرسين أو مستجدّين، يمكنهم الدوران بنعومة وسلاسة من اليمين إلى اليسار.. والعكس!.