رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خرائط متصدعة ونزاعات مديدة


الخرائط كالمبانى.. سر سلامتها يكمن فى حسن صيانتها.. تركها فى عهدة الوقت وحده ينهكها.. يهجم عليها العمر.. تنتابها التجاعيد.. تضعف مناعتها وتتصدَّع، ومن هذه التصدعات تتسلل الرياح.. تعثر على حلفاء وأعداء.. وتضاف أسباب جديدة إلى أسباب الحروب الأهلية الموجودة أصلًا.
الصيانة تعنى وجود دولة طبيعية.. ترعى مواطنيها.. تستمع إليهم وتشركهم وتنهمك بتحسين أحوالهم.. مؤسسات جامعة.. وقضاء نزيه.. ومؤسسات أمنية تعمل فى ظل الدستور وأحكامه.. تتصدع الدول فتفقد حصانتها.. يستباح قانونها فى الداخل وتستباح حدودها الدولية من الخارج.. تتسرب إليها النزاعات العابرة للخرائط بأفكارها وميليشياتها فتلتحق الخريطة مرغمة بنزاعات تفوق قدرتها.. ويضاعف من الخطر أن تتجاور الدول المتصدعة فيغذى اضطراب واحدة اضطراب جارتها وتتكاثر بحيرات الوحل والدم وقوافل القتلى والمهجرين.
رسم السياسى صورة قاتمة للسنوات المقبلة فى هذا الجزء المجنون من العالم.. قال إن دول الشرق الأوسط تحتاج إلى مدرسة ومصنع واستثمارات، لكنها موعودة بمزيد من الحروب والنزاعات.. لاحظ غياب أى مرجعية يمكن اللجوء إليها لوقف الاندفاع نحو الهاوية.. تآكلت هيبة المنظمة الدولية وقراراتها.. صارت منبرًا إعلاميًا أكثر منها هيئة معنية بحماية الأمن والسلام الدوليين، المشكلة ليست فقط العجز عن إيجاد الحلول، إنها أيضًا العجز عن توفير هدنات تسمح بالتقاط الأنفاس وإعادة الحسابات.
لاحظ أن الانحسار فى دور الشرعية الدولية يرافقه وضع دولى بالغ الصعوبة.. فى عالم المعسكرين كان يكفى أن تتفق واشنطن وموسكو ليتم احتواء أى نزاع ومنع امتداده أو استمراره.. ذهب هذا العالم إلى غير رجعة.. عالم القوة العظمى الوحيدة الذى ولد من رحم الانهيار السوفيتى لم يعمر هو الآخر.. إدارة العالم مهمة أصعب من أن تضطلع بها قوة واحدة مهما امتلكت من الثقل الاقتصادى تتبلور توازنات جديدة وبديلة.. تراجع الدور الأوروبى وتقدم الدور الصينى، لكن لم تتبلور بعد آلية دولية لضبط النزاعات تقوم على توزيع جديد للسهم فى شركة القرار الدولى.. توزيع يأخذ فى الاعتبار عودة روسيا وصعود الصين وما أصاب العالم من متغيرات بفعل الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة.
قال السياسى إن المشكلة هى أننا نتحدث عن بعض دول المنطقة دون أن نأخذ فى الاعتبار التغييرات العميقة التى أصابت التوازنات داخلها وتسلل لاعبين إقليميين أو دوليين إلى تركيبتها التى لم تنجح فى التعافى من آثار الانهيارات المتلاحقة.. إن عملًا روتينيًا من نوع تشكيل الحكومة تحول مهمة شاقة، وخير دليل ما يرافق تشكيل أى حكومة فى العراق ولبنان.
يطالب العالم حكومة عادل عبدالمهدى بما لا تستطيع تقديمه مثلًا.. ليست قادرة على إبقاء العراق خارج عملية تبادل الرسائل القاسية بين واشنطن وطهران.. ليست قادرة فى الوقت نفسه على إبقاء العراق خارج عملية تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل.. أى محاولة جدية منها لإبقاء الساحة العراقية خارج هذه التجاذبات والمبارزات تعنى سقوطها.. وافتقاد حكومة عبدالمهدى إلى هذه الحصانة تعبير صريح عن افتقاد الدولة العراقية إليها.. هل يستطيع عبدالمهدى مثلًا إلزام «الحشد الشعبى» بعدم الانخراط فى أى مواجهة تخوضها إيران فى المنطقة؟ الجواب الواقعى معروف.. يمكن قول الشىء نفسه عن حكومة سعد الحريرى فى لبنان على رغم الفوارق فى الموقع والظروف المحلية.
حقيقة الأمر أننا أمام دول متصدعة لم تنجح فى ترميم وحدتها الوطنية لإقفال الثقوب التى تتسرب منها التدخلات الخارجية.. احتاج العراق مثلًا إلى المساعدة العسكرية الأمريكية للقضاء على كيان «داعش».. لولا الغارات الأمريكية لدام هذا الكيان فترة غير قصيرة.. الدول الكبرى ليست جمعيات خيرية.. لها مصالح ومطالب.. لا تستطيع الإفادة من القوة الأمريكية ثم تختار السير فى اتجاه معادٍ لها، لهذا الاضطراب فى الخيارات أثمان.. ثمة ما هو أفدح من ذلك.. نجحت عملية شطب «دولة داعش» من الوجود، لكن التقارير تتحدث حاليًا عن عودة التنظيم إلى التحرك قرب الموصل وفى أنحاء أخرى من الأنبار.. المشكلة أن السياسات التى مهدت الأرضية لولادة «داعش» لم تغِبْ مع غياب دولته.
خذ الوضع السورى مثالًا.. نجح التدخل العسكرى الروسى فى إحداث تحول فى مسار الحرب.. لم تعد فكرة إسقاط النظام مطروحة عمليًا لكن هذا التدخل لم ينجح فى إطلاق عملية لإنهاء الحرب.. ليس بسيطًا أن نرى تركيا تؤسس مع أمريكا «منطقة آمنة» داخل الخريطة السورية لدفع الأكراد بعيدًا عن حدودها.. الواقعية تفرض القول إنه من الصعب تصور سوريا وقد عادت قريبًا دولة طبيعية تعيش فى ظل قرارها، وتنتشر قواتها المسلحة على كامل خريطتها دون شريك، سواء أكان دولة أم ميليشيا.. عدم عودة اللاجئين السوريين من المخيمات التى أرغموا على اللجوء إليها يوفر الأرضية لانتشار التطرف مرة أخرى.. شعور الأكراد بأن تضحياتهم فى محاربة «داعش» لم تؤخذ أبدًا فى الاعتبار يؤسس هو الآخر لمشاعر ستتحيَّن أى فرصة للتعبير عن نفسها.
كان الشعور سابقًا أن الدول المتاخمة للكيان الإسرائيلى تعيش على خط الزلازل الذى أطلقه النزاع العربى - الإسرائيلى. يمكن القول اليوم إن هذا النزاع لم يعد البند الأول فى مخاوف أهل المنطقة أو اهتماماتهم. التدفق الإيرانى فى الإقليم بعد اقتلاع نظام صدام حسين وضع عددًا من الدول أمام خط جديد للزلازل.. تصدع الدول متعددة الانتماءات أطلق بدوره زلازلَ لم تنحسر تمامًا بعد.. الهجمات الإسرائيلية الأخيرة فى العراق ولبنان وسوريا ترسم بدورها خطًا جديدًا للزلازل.
التصدع اليمنى واضح بدوره وشهدنا فى الأيام الأخيرة فصولًا تشير إلى ما يمكن أن يحدث ما لم يتخذ اليمنيون قرارًا حاسمًا بالاحتكام إلى الحوار الذى دعت إليه السعودية كطريق وحيدة لمعالجة مشكلاتهم ورسم مستقبلهم.. تحول الحوثيين وكيلًا إيرانيًا نشطًا يكشف عن أن التصدع فى الخريطة اليمنية ذهب بعيدًا.
تستطيع روسيا التعايش مع هذا التصدع المتفاقم فى الخرائط، أمريكا أيضًا تستطيع التعايش وربما بعض الدول الإقليمية، لكن السؤال هو عن الشعوب الممزقة فى ظل الخرائط المتصدعة التى باتت تستورد نزاعات جديدة وتضيفها إلى النزاعات القديمة.
نقلًا عن «الشرق الأوسط» اللندنية