رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الضابط الذى يحكم الإعلام الألمانى


الرائحة فاحت، وصارت وسائل الإعلام الألمانية تنافس فى الكذب والتدليس والفبركة نظيراتها التركية والإسرائيلية والقطرية، سواء تلك التى تديرها أجهزة مخابرات تلك الدول بشكل مباشر، أو عبر عملاء أمثال عزام التميمى، أيمن نور، وضاح خنفر، أو الإسرائيلى عزمى بشارة.
تمويل مؤسسة «دويتشه فيله»، أو DW، يأتى رأسًا «من الخزانة العامة الاتحادية»، ما يعنى أن مقالات أو تقيؤات المدعو علاء الأسوانى، مثلًا، على موقعها الإلكترونى، مدفوعة من الـ٣٢٦ مليون يورو، ميزانية المؤسسة السنوية، حسب بيان أصدره «بيتر ليمبورج»، مديرها العام. ومعروف أن من يدفع للزمار يختار اللحن، والعبارة تنسحب أيضًا على غلمان وعملاء آخرين، تستخدمهم أو تستعملهم وسائل إعلام ألمانية مختلفة، ليعزفوا اللحن الذى تختاره لهم أجهزة أمنية أو مخابراتية، والذى يستحيل أن يخالف توجهات الدولة أو يمس الكيان الصهيونى بأى سوء.
لن نستعرض أمثلة مما نشره الموقع الإلكترونى لـ«DW»، أو مما عرضته شاشاتها العربية، وسنكتفى بتذكيرك بتدليسات، فبركات، وتشنجات المدعو يسرى فودة، الذى لم تطرده المؤسسة، أو تقرر الاستغناء عن خدماته، إلا بعد افتضاح تحرشه جنسيًا بكل «تاء مربوطة» تقريبًا، داخل المؤسسة وخارجها، والذى لم تستطع الجهة التى تستعمله حمايته من الملاحقات القضائية إلا بإخفائه، وللمذكور تاريخ طويل فى خدمة أجهزة المخابرات، وسبق أن اتهمته جين ماير فى كتابها «الجانب المظلم»، الصادر سنة ٢٠٠٨، بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية.
ما يحدث فى «دويتشه فيله» ليس استثناءً، أو الكبوة التى قد يقع فيها أى جواد، بل هو مجرد مثال لقتيل فى مشرحة لا ينقصها مزيد من القتلى، ولو أردت مثالًا ثانيًا لن نجد أفضل من مجلة «دير شبيجل»، التى صدرت سنة ١٩٤٧ بإدارة الضابط البريطانى جون سيمور شالونى، ورودولف أوغسطين، المذيع السابق فى راديو الجيش الألمانى. وصارت الآن كبرى المجلات الألمانية، وتزعم أن لديها طاقمًا متخصصًا فى التدقيق والتحقق من صحة الأخبار، وتصادم هذا الزعم مع فضيحة قيام المجلة بنشر عدد من التقارير المفبركة، قالوا إن عددها ١٤ تقريرًا، بينما يقول الواقع إن ما خفى كان أكثر وأفدح.
كلاس ريلوتيسو، ٣٣ سنة، ظل يمارس الفبركة والتدليس على صفحات «دير شبيجل» فى هدوء، حتى تعاون مع زميله خوان مورينو فى تقرير عن لاجئين حاولوا التسلل عبر الحدود المكسيكية، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولما اكتشف «مورينو» أن «ريلوتيسو» اختلق قصصًا وتصريحات نسبها لبعضهم، لم يجد الأخير أمامه غير الاعتراف بجريمته، وهكذا، انتهت سنوات الفبركة والتلفيق، بتقديم «ريلوتيسو» استقالته، فى ١٦ ديسمبر الماضى، واضطرت المجلة، التى توصف بأنها عريقة، إلى الاعتراف، بعد ثلاثة أيام، بأن حاصد الجوائز العديدة اختلق قصصًا وفبرك أخبارًا، وأعربت عن صدمتها، وتعهدت بفتح تحقيق لمعرفة كيف تمّ تمريرها ونشرها، وكيف لم يكتشفها الطاقم المتخصص فى التدقيق والتحقق من صحة الأخبار.
وقتها، نصحناك بألَّا تصدق ادعاءات المجلة، أو على الأقل بأن تتشكك فيها، لأن اللعبة ليست جديدة، وأوضحنا كيف وضع صحفيون ومثقفون كثيرون أنفسهم فى خدمة أجهزة مخابرات دول، ولا نستبعد أن يكون «ريلوتيسو» واحدًا منهم، وإلا لما حصل عن تقاريره المفبركة على جائزة صحفى العام من شبكة «CNN» الأمريكية، سنة ٢٠١٤، عن تقرير تناول فيه قصة يمنى أمضى ١٤ سنة فى معتقل جوانتانامو. وما حصل فى ديسمبر الماضى على جائزة «مراسل العام» عن تقرير مفبرك آخر تناول شبابًا سوريين، قيل إنهم أسهموا فى انطلاق مظاهرات ٢٠١١، وربما كان سيحصد جائزة جديدة عن قصة الطفلين العراقيين اللذين اختطفهما إرهابيون، وهى أيضًا قصة مفبركة.
لم تعد الأخبار الكاذبة مجرد شائعات تقوم جهات، كيانات، أو أجهزة بزراعتها فى وسيلة إعلام أو اثنتين أو حتى عشر، بل تحولت إلى صناعة كاملة، وقامت كل الدول، وفقًا لأحجامها وقدراتها، بتجنيد من يقومون بكتابة مقالات وتقارير موجهّة، مكتوبة بالأمر أو حسب الطلب، وبعد عشرات أو مئات اللدغات صار عقلاء كثيرون يقرأون تلك المقالات أو التقارير ليعرفوا التوجهات، الانحيازات، الولاءات، التمويلات.. وخلافه. ولعلك تتذكر تلك المقالات التى كانت جريدة «واشنطن بوست» الأمريكية تنشرها باسم السعودى جمال خاشقجى، وثبت أن دبلوماسية أمريكية سابقة، اسمها ماجى ميتشل، تعمل بمؤسسة قطر الدولية، كانت تمليها عليه أو تكتبها نيابة عنه، ربما بتنسيق مع المخابرات القطرية، التركية، أو مخابرات دول أخرى.
مع تكرار الفضائح، ومع حالة السُّعار التى انتابت، مؤخرًا، بعض مَن تستعملهم وسائل الإعلام الألمانية، كالموقع العربى لـ«دويتشه فيله»، مثلًا، تكون النصيحة الواجبة للضابط الذى يحكم الإعلام الألمانى: عالج غلمانك نفسيًا، أو راقبهم جيدًا، فربما يسىء آخرون استعمالهم.