رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسد القضاة«1»




فى التنظيمات الفاشية يتم إعلاء قيمة التنظيم على قيمة الفرد، الفرد لا قيمة له، هو لا شىء، أما التنظيم فهو كل شىء، لذلك يقولون للفرد: «التنظيم بك أو بغيرك، أما أنت فلا شىء بدون التنظيم».
نظرًَا لتسيد هذا المفهوم فإن تلك التنظيمات لا تهتم بالفروق الفردية بين الأفراد، إذ كل ما تبتغيه الجماعة من الفرد هو الطاعة والجندية، فيتحول الأفراد إلى ما يشبه الآلات الميكانيكية، التى تتحرك إذا ما ضغط أحدهم على الزر الخاص بها، ولكن فى دنيا الناس الأمر يسير على غير ذلك، فالمهم هو الفرد لأنه هو الذى سيقدم لمجتمعه، وقد أكد الله هذا الاختلاف بقوله «ورفع بعضكم فوق بعض درجات»، وعن طالوت قال الله تعالى «إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة فى العلم والجسم» وقال سبحانه أيضا «نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم». ولعلك قرأت فى القرآن كثيرًا قوله تعالى «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها» بل إن سيدنا إبراهيم عليه السلام كان يعدل أمة كاملة، ألم يقل الله تعالى فيه «إن إبراهيم كان أمة»، وهكذا نجد أن الله جعل الناس درجات ولا معقب لحكم الله.
وفى التاريخ تجده وقد امتلأ بالعباقرة والخاملين، بالقادة والجنود، بمن ردد الزمان ذكرهم، ومن ضاعوا فى أدراج النسيان، فهناك فى فرنسا كان نابليون القائد الفذ، وفى روسيا كان لينين وستالين، وفى بريطانيا ونستون تشرشل، وفى مصر سعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبدالناصر، كل هؤلاء كانوا قادة وزعماء تحينوا اللحظة التاريخية وقادوا أممهم ورفعوا قدرها بين الدول والأوطان، أما المثل الذى نراه أقرب ما يكون إلى واقعنا الحالى فهو الزعيم سعد زغلول، الذى كان وزيرا للحقانية، وكان تاريخه ينبئ عن أنه سيكون صاحب شأن عظيم، فقد حفظ القرآن فى كتاب القرية والتحق بالتعليم فى الأزهر الشريف وتلقى العلم على يد جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده، وعمل فى المحاماة فترة ثم التحق بالنيابة العامة حتى أصبح رئيسًا للنيابة زميلًا لقاسم أمين، وظل سعد فترة واحدًا من كبار السياسيين المصريين المصلحين، الذين يبحثون عن نهضة ترقى إليها البلاد، ومن ثم أصبح وزيرًا للحقانية، وفى مستقبل الأيام تبوأ مقعده رئيسًا لوزراء مصر.
وفى لحظة فارقة فى تاريخ مصر وجد سعد زغلول نفسه فى موقف يجب فيه أن يقود، لم يضع حسابًا لسجن مرتقب، أو منفى منتظر، وقد يصل الأمر إلى حد التعليق على أعواد المشانق أو الاغتيال غدرًا وغيلة، ولكنه لم يهرب من قدر القيادة والزعامة مهما كانت تبعاته، وكان هو الزعيم المصرى الذى قاد ثورة ١٩١٩ وسيظل التاريخ يذكره ويذكر مآثره على الأمة، كان سعد زغلول أمة، فظل حيًا بزعامته على مدار أزمان مرَّت على الأمة.
وفى أيامنا هذه رجل انتخبته الأقدار ليكون كسعد زغلول، ولكن لكل منهما زمنه ومجاله وطريقته، وقد راودتنى نفسى أن أغمط حقه، أو قل غلبنى الحياء أن أذكره، فأنا أعلم أنه أبعد ما يكون عن الأثَرة وحب الذات، لا يفتأ يبتعد عن الأضواء، إلا أن مواقفه سلطت عليه الأضواء، والحقيقة أنه لم يكن كغيره، فأنا لم أر فى حياتى رجلًا يمارس قناعاته إلى حد أن يضحى بحياته مثل هذا الرجل، وقد كان على شفا حفرة من المخاطر، ولكنه لم يتوان بل كان فى المقدمة ينافح عن القضاء كله، ثم إذا به يصبح منافحًا عن الأمة كلها، وكان قد جرى فى بالى وأنا أكتب هذه السطور أن أتحدث عن القضاة وحسب، فآثرت أن أتحدث عن المواقف والمهمات التى حملها القضاء حين ألمت بالأمة الملمات، ولكن المواقف لم تصنع نفسها ولكن صنعها رجال، وقادها رجال، أيجدينا أن نتحدث عن المواقف ولا نذكر الرجال الذين قاموا بها؟! فمن هو صاحبنا الذى سنفرد له السطور القادمة؟.