رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قطة صغيرة عند جون شتاينبك



شغلتنى طويلًا قطة صغيرة عند الروائى الكبير جون شتاينبك، حتى إننى عندما انتهيت من قراءة روايته «حين فقدنا الرضا» ظللت أفكر مدة فى تلك القطة التى وصفها المؤلف فى سطر واحد قائلًا: «فتحت باب الدكان، كانت القطة تنتظر قرب الباب جالسة فى دائرة من ذيلها الذى كان يتذبذب بين قدميه الأماميتين»، ولم يأت على وصفها ثانية. الرواية الجميلة، وهى ليست من أعمال شتاينبك المعروفة، تقع فى نحو أربعمائة صفحة كاملة حافلة بالأحداث والشخصيات والدراما النفسية، ومع ذلك تبقى القطة فى الذاكرة.
يعرض الروائى لنا الشخصية الرئيسية «إيثان» الذى ينحدر من عائلة كانت ثرية وأفلست. إنه فى الأربعين، يعيش مع زوجته الجميلة مارى وولديه الصغيرين، يكسب قوته من عمله موظفًا فى محل بقالة، وهو قانع بمستوى حياته، لا يتذمر ولا يشكو، ولا يسعى للقفز إلى طبقة أعلى، وعندما يقول له ابنه: «بابا.. أنا أريد أن أصبح ثريًا ليكون عندى كل شىء»، يسأله «إيثان»: «وما ضرورة أن تكون غنيًا؟ ما ضرورة ذلك؟». إنه لا يفهم اللهاث وراء المال والثروة، ما دام الإنسان يحيا مستورًا وتتوفر له الضروريات اللازمة، لكن الجميع من حوله يلحون عليه أن يتحرك وينشط ليغدو من الأثرياء. زوجته، لأن للبيت احتياجات، ولأنها تتوق إلى السير فى شوارع المدينة الصغيرة مختالة فخورة بنفسها. مدير المصرف يدفعه إلى تغيير حياته ويحاول إغراءه باستثمار ثروة زوجته الصغيرة فى عمل تجارى. «مارجى» اللعوب صديقة الأسرة توضح له أن الإنسان دون المال لا يساوى شيئًا. يسوقه الجميع وتقوده التفاصيل كلها إلى الاستسلام لما يراه الجميع، وهو أن الثروة هى القيمة الوحيدة التى تؤمن لك المكانة والاحترام فى هذا المجتمع. هكذا يتحول «إيثان» من رجل بسيط نزيه، يرفض الرشوة وينبذ التقاتل من أجل المال، إلى شخص آخر يشى بصاحب المحل «مارولو»، ويبلغ السلطات بإنه مهاجر غير شرعى، فيصبح دكان مارلو ملكًا له بمبلغ رمزى زهيد. ومع ثراء «إيثان» يرشحونه لرئاسة بلدية المدينة. يقول شتاينبك إنه من الصعوبة على الإنسان بأن يقاوم طويلًا القيم التى يلح المجتمع على أنها أساس كل شىء. يكشف شتاينبك عن قوة الرأى العام، وعن أن ضغوطه وقيمه ومثله التى يقدسها كفيلة بتغيير الإنسان. لكن لماذا بقيت فى ذاكرتى القطة الصغيرة؟ ربما لأنها رمز لأهمية الصورة الأدبية الحية فى الفن، وأنه دون تلك الصورة لا يصل تأثير العمل إلى القارئ. لقد وصف شتاينبك الشارع الذى يمضى فيه «إيثان»، ثم وصفه وهو يفتح دكانه، لكن لولا القطة التى جلست فى «دائرة من ذيلها» ما كان للصورة أن تنطبع فى الذهن بهذه القوة. الأدب دون صور لا شىء، إنه يصبح تفكيرًا أو تحليلًا أو نظرة فلسفية، أو أى شىء. أيضًا سنجد لدى الكاتب الكبير رايموند كارفر فى قصته «الكاتدرائية» قطته الخاصة به حين يقول: «عثر على كيس تسوق»، لكنه، لكى تصبح الصورة حية، يضيف: «كيس تسوق فى قعره قشر بصل»! هنا يقوم قشر البصل بعمل القطة عند شتاينبك، أى أنه يجعل الصورة حية ومتفردة لا تفارق الذهن، فينطبع العمل إجمالًا فى ذهن القراء. إن الصورة الأدبية بالغة الأهمية، لأن عين الإنسان تاريخيًا كانت أسبق من تعرف الإنسان على الكتابة واللغة، وهكذا استوعب الإنسان العالم طويلًا جدًا، بصفته صورًا وليس كلمات. بهذا الصدد يقول إيتالو كالفينو فى كتاب «ست وصايا للألفية القادمة»: «يبدو لى أن السؤال عما يسبق الآخر، الصورة البصرية أم التعبير اللفظى يميل إلى ترجيح المخيلة البصرية تحديدًا». أى أن الصورة فى الوعى قد سبقت اللغة، وأن العين كانت وسيلة التعرف إلى العالم، قبل أن يسمى الإنسان الأشياء بأسمائها. لهذا كثيرًا ما يقولون: «هذا عين العقل!» أى أن العقل يرى. ولأهمية الصورة الأدبية يقول الكاتب العظيم أنطون تشيخوف: «لا تقل لى إن القمر يُضىء بقوة، لكن دعنى أرى وميضًا من ضوء على زجاج محطم».
تكتسب الصورة الأدبية حيويتها من قطة صغيرة جالسة فى دائرة من ذيلها، أو من قشر بصل فى قعر كيس، أى من خصوصيتها وتفردها. وفى ذلك يقول يحيى حقّى فى كتابه «أنشودة البساطة»: «ما أكثر ما أسمعهم فى القصص يقولون: قطف زهرة.. هنا ينبغى أن تقول: فقطف وردة أو قرنفلة أو ياسمينة.. وحين تصف البطل مثلًا بأنه شيخ.. فإنى أقول لك لا يشيخ كل الناس على هيئة واحدة، هذا يفقد أسنانه وهذا ينحنى ظهره، فينبغى أن تصف لنا شيخوخة هذا الشيخ بالذات». لم تقم القطة بدور خاص فى الرواية، لكنها أشارت بقوة إلى أهمية أن تكون الصورة الأدبية ناطقة، ومن ثم يمكننى أن أرى العمل، وفى ذلك تحديدًا يكمن السر فى المتعة التى يهبنا إياها الأدب.