رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الناس فى بداية القرن العشرين



يحتفى المؤرخون دائمًا ببدايات القرون، حيث يحاولون استشراف صورة العالم الجديد الذى يتشكل فى الأفق، وحتى على مستوى العامة تحتل بدايات القرون مساحة مهمة فى ذهنية الناس وتصوراتهم حول القادم من مستقبلهم.
يرصد «باتريك أورشادنيك»، الفرنسى ذو الأصل التشيكى، فى كتابه المثير «أوربيانا: مختصر تاريخ القرن العشرين»، ترجمة خالد البلتاجى، كيفية استقبال الناس بدايات القرن العشرين، قائلًا: «انتظر الناس فى نهاية القرن التاسع عشر القرن الجديد بشغف كبير، كان لديهم شعور بأن القرن التاسع عشر قد رسم للبشرية الطريق الذى سيسلكونه، وأنهم سيتمكنون جميعًا فى المستقبل من استعمال الهاتف، وركوب البواخر، والتنقل عبر الطرق، والسير على السلالم المتحركة ذات الدرابزين المتحرك، وسوف يدفئون منازلهم بفحم جيّد، ويستحمون مرة على الأقل فى الأسبوع، وسوف ينقل التلغراف الكهرومغناطيسى والهاتف أفكارهم ورغباتهم بسرعة البرق، وسيعبرون المسافات، وسيتمكن المجتمع البشرى من تحقيق التناغم والعيش فى سلام ووئام».
ويرصد الكتاب الحدث العالمى الكبير فى بداية القرن العشرين، وكيف ظهرت فيه أمانى وتطلعات الناس لمستقبل أفضل، كان ذلك الحدث هو المعرض الدولى فى باريس فى عام ١٩٠٠، إذ تنقل الزائرون فى أنحاء وأجنحة المعرض من خلال السلالم المتحركة وكأنهم فى عالم ساحر، كما استمتعوا بممارسة الاكتشافات الحديثة التى عرفتها البشرية آنذاك، وفى الأجنحة الفنية للمعرض تعرّفوا على الاتجاهات الفنية الحديثة التى انبهروا بها.
ووصلت آمال الناس وتطلعاتهم إلى عنان السماء، كانوا مقتنعين بأن القرن العشرين سينعم عليهم بمتغيرات عديدة، إذ سيقضى على الفقر، وسيقلل من ساعات العمل، وسيتمتع الجميع بإجازة لمدة أسبوع مدفوعة الأجر، وأيضًا بضمان اجتماعى.
وبالنسبة لعلاقة الرجل بالمرأة فكانت الأفكار التقليدية فى نهاية القرن التاسع عشر ترى أن المكان الطبيعى للمرأة هو البيت، وأن الأعمال المنزلية تناسبها تمامًا، وأن المرأة من الناحية الجسمانية لا تستطيع القيام إلا بالأعمال الخفيفة، ورفض الناس هذا الأمر، وارتفعت أصوات النساء بأن هذا الأمر ضد فكرة الديمقراطية، لأن النساء فى النهاية بشر وليس من العدل أن يقمن فقط بولادة الأطفال وغسل الحفاضات وغيرها، وانتظار أزواجهن.. وبدأت حركات تعليم المرأة وعملها فى كل المجالات، وعلى المستوى السياسى بدأت النساء فى المشاركة فى الانتخابات فى فنلندا عام ١٩٠٦، وفى النرويج عام ١٩١٣، وفى الدنمارك عام ١٩١٥.
ويرى الكتاب أن من أهم الاختراعات المفيدة بالنسبة للمرأة فى القرن العشرين هو اختراع موانع الحمل، ويفسر ذلك قائلًا: «لأن النساء استطعن ممارسة الجنس وقتما شئن دون أن يخفن من الحمل، ومكنهن ذلك من الاستقلالية الجنسية والاقتصادية، فاستطعن تقلّد مختلف الوظائف المهمة».
هكذا كانت آمال وأحلام الناس فى مطلع القرن العشرين، عالمًا جديدًا مشرقًا وأفكارًا خلاقة، وانتصارًا لفكرة الديمقراطية، ولكن فى الوقت نفسه كان هناك واقع مُغاير يدفع العالم كله دفعًا إلى الفناء؛ إنه التنافس الاستعمارى على السيطرة على العالم، وسباق التسلح من أجل ردع الآخرين، لكن العالم انزلق بالتدريج من جراء ذلك إلى حرب كبرى من عام ١٩١٤ حتى عام ١٩١٨، استعملت فيها لأول مرة أنواع من الأسلحة الجديدة المدمرة، وانتشرت الحرب فى قارات العالم القديم، وتورطت فيها الكثير من الدول، وسقط من جرائها ملايين البشر بين قتيل وجريح وشريد، لذلك سميت لأول مرة «الحرب العالمية»، وظن العالم بعدها أنه تعلم من هذه الخبرة المريرة، وأنه سيسعى سعيًا نحو السلام العالمى، لكنه سرعان ما سقط فى حرب جديدة، أطول فترة وأشد قسوة ودمارًا، إنها الحرب العالمية الثانية.
هكذا كانت صورة العالم عند مطلع القرن العشرين، فماذا كان حاله عند مطلع القرن الحادى والعشرين؟.