رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: مزارع الكرامة فى صحراء مصر


أهالينا فى الريف والصعيد دائمًا ما كانوا يرددون «اللى قوته من بيته.. صوته من دماغه».. لم نكن نفهم معنى تلك الكلمات ونحن صغار نلهو حولهم فى الدواوير فيما يمضغون حكايات الأجداد على المصاطب.
لم تعد تلك الكلمات الصغيرة الحادة عميقة الرؤية مجرد «كلام مصاطب» بل صارت أهم نظريات علم السياسة والاقتصاد.. لم تعد هناك دولة فى العالم تستطيع أن تضمن حريتها وحرية قرارها دون أن تؤمِّن الغذاء لمواطنيها.. وربما كان التعبير الشعبى شديد الصراحة والوضوح «يا سارق قوتى.. يا ناوى على موتى».
تلك الرؤية الشعبية المغرقة فى التاريخ.. لم تأتِ صدفة.. علمها الزمن لأجدادنا.. لكن يبدو أننا اعتبرناها أمرًا واقعًا.. وكأنها تحدث بلا جهد أو عمل.
بهذا الفهم استقبلت مشاهد افتتاح الرئيس عبدالفتاح السيسى المرحلة الثانية من «البيوت الزراعية التى تعودنا تسميتها بالصوب.. القصة ليست فى أحد المشاريع الكبرى التى تبنيها مصر فى هذه اللحظة.. المعنى أكبر وأشمل.
ربما يسعدنى ويسعدك أن تعرف أن مائة ألف فدان.. وهو رقم يبدو بسيطًا لمن لا يعرف يعنى إيه أرض وصحراء وزراعة.. لمن لا يعرف حلاوة وطعم الثمار وهى خارجة من الأرض.. هو رقم بسيط فى عيون وأذهان من يجلسون للفتوى المجانية أمام شاشات الكمبيوتر.. يتسلون.. لكنه رقم كبير ومبهر لمن يعرف قيمة أن نؤمن «لقمة عيشنا».. لمن يعرف معنى أن تكون حرًا.. مستقلًا.. صوتك من رأسك.
يعرف كل المتخصصين فى الزراعة وعلوم المناخ.. أن تغيرات الطبيعة قاسية.. وأن أوروبا والأمريكتين تعملان منذ سنوات طويلة لتأمين الغذاء لمواطنيها من غدر تغيرات المناخ.. لذا لم يكن غريبًا أن يشرح قادة المشروع كيف أننا «نشق فى الصخر» فعلًا لا مجازًا لتمهيد وتطويع تلك الصحراء فى سبعة أماكن مختلفة، حتى تثمر من طيبات ما رزقنا الله.. أربعة آلاف فدان فى العاشر من رمضان.. وآلاف الأفدنة فى قرية الأمل بالإسماعيلية.. وآلاف أخرى فى قاعدة محمد نجيب بمطروح والعلمين.. وستين ألف فدان فى المنيا وبنى سويف.
من شاهد منظر تلك العربات التى خرجت من مخازن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة تشق الصحراء فى عز الضهر تقطع مئات الكيلو مترات حتى تصل إلى قلب «الصخور» تزيلها، وتمهدها لتقطع المياه قلب تصحرها فتصير جنات عدن.. من شاهد ذلك المنظر ولم يرتعش فؤاده فهو جاهل أو جاحد لا شك.
توفير فرصة عمل لشاب مصرى.. حلم.. توفير كيلو فاكهة أو خضار مصرى آمن ونظيف خالٍ من المبيدات التى أهلكت أكباد أهالينا.. أمن قومى.. إنتاج بذور وتقاوٍ مصرية- البطاطس على سبيل المثال- حرب جديدة تخوضها الدولة ضد المحتكرين.. والتجار.
وحسب كلام الرئيس، فإن هذه المائة ألف من الفدادين توفر الغذاء الآمن لنحو ٢٠ مليون مواطن مصرى.. يعنى خُمس الشعب المصرى.. وإذا ما أضيف إليه ما ينتجه المزارعون المصريون فى الوادى والصحراء.. فنحن نقترب من حلم «الاكتفاء».. ولمَ لا؟.. ولمَ لا نحلم بتجاوز ذلك إلى التصدير أيضًا، وخاصة تلك البلدان التى ستتعرض لأزمات مناخية محتملة.
إذا ما وضعت ذلك المشروع إلى جوار مشروع مجمع الفوسفات الذى كتبت عنه فرحًا فى الأسبوع الماضى.. تكتمل الصورة.. فأحد أهم مكتسبات مشروع الفوسفات هو توفير «الأسمدة» التى تحتاجها الزراعات المصرية فى الفترة المقبلة.
بقى أن أشير إلى أن أبناء مصر يدركون ذلك فعلًا حتى وإن لم يعبروا عنه فى مواقع السوشيال ميديا.. فمن تابع تلك المجاميع العالية التى قبلت منها كليات الزراعة هذا العام، يدرك أننا نعرف أن المستقبل للزراعة.. وللعلم.. فالبيوت الزراعية التى أحدثكم عنها تنتج خمسة أضعاف ما ينتجه الفدان العادى فى الأرض العادية.. الدولة المصرية لا تضيف مساحة خضراء فقط إلى واديها.. هى لا تضيف «أشولة وكراتين فاكهة وخضروات» إلى أسواق العبور.. هى لا تمارس دور تاجر الخضار أو الفاكهة.. لكنها تضيف إلى تراثها الحضارى كمجتمع مستقر.. عرف «تعمير الأرض» رسالة الله إلى عباده.. لهذا خلقنا الله لنخلفه فى تعمير أرضه.
بهذا الفهم.. بهذه العين.. بهذا العقل.. أنظر إلى فرحة أهلى بمشروعهم الجديد.. وبما قيل من رئيس البلاد «من يخربون ويدمرون».. لا يبنون.. هؤلاء بعيدون من الأصل عن رسالة المولى عز وجل.
فى الأسبوع الماضى طلبت من قادة جهاز الخدمة الوطنية توفير رحلات لشبابنا إلى مجمع الفوسفات، ليشاهدوا بأعينهم ما يجعلهم أكثر فخرًا ببلادهم ومستقبلهم.. واليوم أكرر طلبى لوزير الشباب والرياضة وكل من له صلة بتوفير رحلات شبه دائمة لمشروع البيوت الزراعية.. لنعرف.. ونفهم ونشعر.. فالنجاح عدوى نحتاج أن تنتقل إلى كل ميادين العمل فى بلادنا.