رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طيور بيضاء لا تموت




يقول الشاعر رسول حمزاتوف: «طارت مئات المراكب إلى نجوم الفضاء، لكنى أقول لكم: أيها الناس، أيها الناس، أنتم نجوم السماء الفسيحة، وكم أتمنى لو أطير إليكم ولو مرة». نعم، الناس نجوم تمشى على الأرض، تنير الحياة زمنًا ثم تنطفئ، لكننا لا نرى من نجوم الناس سوى ممثل سينمائى، أو لاعب كرة قدم أو مطربة، أما الذين انقضت حياتهم دفاعًا عن الوطن أو العلم أو الثقافة، فإن صورهم وأخبارهم وأسماءهم لا تظهر ولو مرة.
أقول هذا بمناسبة وفاة نجم شهير منذ فترة بسيطة، وانشغال كل الصحف برحيله، ومساحات البرامج التليفزيونية التى أفردت له، ونشاط وسائل التواصل الاجتماعى فى نعيه، هذا بينما توفى فى نفس الأسبوع، لكن فى صمت، مقاتلون وجنود مصريون عظماء، لم تظهر أسماؤهم ولا صورهم ولو مرة ولم يكتب عنهم ولو حرفًا. أولهم اللواء السيد الشافعى، الذى رحل عن عالمنا فى ٩ يوليو قبل وفاة النجم فاروق الفيشاوى بنحو أسبوعين، فلم يشعر أحد برحيله. هو اللواء البطل السيد الشافعى قائد اللواء الخامس مشاة من الفرقة ١٩ بالجيش الثالث ميدانى. تحت قيادته قام اللواء فى العاشر من حرب أكتوبر بالاستيلاء على مركز القيادة الإسرائيلى فى سيناء، ودمر ٢٦ دبابة إسرائيلية، وأسر ديفيد جروس، قائد كتيبة الدبابات. يقول اللواء الشافعى فى مذكراته: «قررت أن أشن هجومًا ليليًا صامتًا بالمشاة فقط من دون استخدام كتيبة الدبابات، لأن دبابات العدو كانت أبعد مدى من الدبابات التى معى. كونت مجموعات من قناصة الدبابات انقضت فى جوف الليل على الأعداء وهم نيام، وأبادوهم، ثم هجم أبطالنا على الدبابات، وكان الجندى المصرى يدفع نفسه تحت الدبابة ويصعد عليها من الخلف ويلقى قنبلة عليها ويفجرها».
هكذا دمرنا ٢٦ دبابة وقمنا بأسر الكثيرين، وعلى رأسهم قائد الكتيبة نفسه ويدعى «ديفيد جروس»، وقد سألته عن رأيه فى المعركة التى دارت فقال: «لقد حارب رجالكم بطريقة مذهلة.. هل تعطونهم حبوب الشجاعة؟»، فقلت له: «لا، لكنه الجندى المصرى». لم تظهر صور اللواء البطل على الشاشات، ولم تشغل الصفحات الأولى من الصحف، ولا شاغلت وسائل التواصل الاجتماعى، لقد أضاء بحياته حياتنا، ثم انطفأ فى هدوء. البطل الثانى هو عمرو البتانونى، الذى حلت ذكراه الثالثة قبل وفاة الفيشاوى بأيام قليلة ولم يتذكره أحد، كان البتانونى ضابطًا بالبحرية لواء الوحدات الخاصة الضفادع البحرية. وعندما تقرر خلال حرب الاستنزاف فى ٥ فبراير ١٩٧٠، تفجير ميناء إيلات تشكلت لهذا الغرض مجموعتان، واحدة منهما بقيادة البتانونى ومعه الرقيب على أبوريشة.
تحركت المجموعتان من الإسكندرية بالمعدات إلى العراق، وهناك كان فى انتظارهما أعضاء من منظمة فتح الفلسطينية، ومن العراق سافرت المجموعتان برًا إلى الأردن، وفى الليل هناك جهزوا الألغام لتفجير المدمرة. وفى الساعة ١٢ و٢٠ دقيقة من صباح يوم ٦ فبراير نزل الأبطال إلى المياه، وسبحوا فى الظلمة تحت الشباك، وقاموا بتلغيم المدمرة، وضبطوا توقيت الانفجار، ثم رجعوا سباحة تحت الشباك. وفى صباح ٦ فبراير بدأت انفجارات النصر تدوى، وراحت البوارج الإسرائيلية تبحث بجنون عن منفذى العملية، بينما كان البتانونى وزملاؤه قد وصلوا سباحة إلى الشاطئ الأردنى، واختفوا. رحل البتانونى فى صمت، ولا أظن أحدًا سمع اسمه، ولا أظن أن طلاب المدارس وقفوا حدادًا عليه فى ذلك اليوم، ولا توقفت عند سيرته وسائل الإعلام.
وقبل اليوم الذى توفى فيه النجم فاروق الفيشاوى توفى فى صمت الفدائى محمود عواد، بطل العمليات الفدائية خلف خطوط العدو فى سيناء عقب نكسة ٦٧، وأول من أوقع بإسرائيلى أسيرًا، وأحد أبطال المقاومة الشعبية فى السويس خلال حرب ١٩٧٣، وفارس معركة ٢٤ أكتوبر فى السويس، والحاصل على نوط الامتياز من الطبقة الأولى من الرئيس أنور السادات. توفى عن عمر يناهز الثمانين عامًا، وبقيت منه سيرته وصيحته الشهيرة: «الوطنية لا تباع ولا تشترى».
هذه هى النجوم التى أحب أن أطير إليها، وهذه هى النجوم التى ينبغى أن تشغل الاهتمام والوجدان لكى يتعلم أبناؤنا أننا حينما نتطلع إلى السماء إلى أعلى، إنما نبحث عن هذه النجوم، وعن هذه الأرواح التى تعبر فى السماء مثل طيور بيضاء لا تموت.