رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالمنعم مدبولى وأكاذيب الإخوان


«عبدالمنعم مدبولى اللى اداله الفرصة يمثل أول مرة فى حياته كان الإمام الشهيد حسن البنا».. هل كان أحدنا يمكنه تصور أن يسمع تلك العبارة من مذيع مصرى، ونحن نعيش مناسبة ذكرى رحيل ذلك الكوميديان العظيم.. العبارة جاءت على لسان مذيع «مصرى» للأسف يقتات على هبات إخوانية ويعيش فى بلد يناصب نظامها العثمانلى مصر العداء.. وتصريح «محمد ناصر» يأتى فى محاولة من جانب أبواق تلك الجماعة الإرهابية لإثبات أن رأس الحية الإخوانية ومؤسس بنيانها السوداوى كانت له علاقة بالفنون ودنيا الإبداع «والكوميدى كمان!!».

الطريف أن جهة أخرى- مجهولة النسب والهوية على شبكة الإنترنت، وإن كان الاعتقاد أنها الأقرب للسلوكيات الإخوانية كخلية مخادعة- نشرت تصحيحًا لتلك العبارة العبيطة، جاء فيها «التصحيح: كان الفنان عبدالمنعم مدبولى، المولود سنة ١٩٢١، يتمتع بالموهبة منذ صغر سنه، حيث اشترك فى المسرح المدرسى، حينها أُعجب به ناظر المدرسة وأسند إليه مهمة تدريب الفريق المسرحى، مُقابل إعفائه من المصروفات المدرسية، وكان أول أجر فنى حصل عليه من التمثيل عندما انضم لعدة فرق مسرحية للهواة، ثم التحق بفرقة «جورج أبيض»، الذى كان يراه «تراجيديان» وليس كوميديانًا، حيث قدم دور رجل شيخ وهو فى سن ١٨ عامًا، ثم التحق بفرقة «فاطمة رشدى»، مقابل ٢٠ قرشًا فى اليوم، وكذلك عمل فى الإذاعة فى حلقات «بابا شارو»، ولم يلتحق بالفرقة المسرحية التى أسستها جماعة الإخوان إلا فى أواخر الأربعينيات.. أى أنه يؤكد مثل تلك الادعاءات التى تنسب لتلك الجماعة مشاركتها فى تقديم رموز الإبداع الفنى المصرى!!! فلندع إخوان النكد ودعاواهم الرذيلة، ولنتذكر كيف كان الاحتفال بتأبين الفنان الكوميدى العبقرى الراحل نجيب الريحانى ومشاركة الشاعر الكبير عزيز أباظة بقصيدة رائعة يُعلى ويُثمن كثيرًا دور الفنون الصادقة والوطنية فى حياة الشعوب بشكل عام، وفنون التمثيل، والكوميدية منها على وجه الخصوص وعطاء نجيب الريحانى بشكل أكثر خصوصية فى إسعاد الناس وتقديم فنون تبقى.. من هذه الأبيات يقول فى تقديره لفن التمثيل:

قل لمن آثروا على المهن التمثيل.. لم تنفقوا الحياة هباء.

فنكم أكرم الفنون على الناس.. وأبقى على الزمان رواء.

وفى تكريمه لنجيب الريحانى يقول:

قر عينًا.. فمصر لن تنسى نجمًا.. مشرقًا كرمته بعد المغيب

خالد أنت والخلود زكاة.. الله تسدى للعبقرى النجيب

أعود إلى تلك الأبيات وصاحبها ومن كُتبت فى تخليده؛ لأرصد هذه الحالة الجميلة من وحدة الفنون والتواصل البديع بين مبدعيها فى ذلك الزمن.. وكيف كان يحدث ذلك، رغم محدودية وسائل النشر والاتصال والإعلام.. فقد كنا نشاهد على سبيل المثال لوحات ومعارض كاملة لسيف وأدهم وانلى، ترصد وتحتفى بالفنون الأوبرالية والموسيقية.. وأمثلة أخرى كثيرة فى هذا الصدد، مثل هذه القصيدة لشاعر رأى فى ممثل قيمة يجب أن يتوقف عندها كل أبناء الوطن بالتحية والتحليل لإبداعاته.

وننتقل من حالة «الريحانى» ونعود ثانية إلى زمن صاحب مدرسة «المدبوليزم» الفنان الرائع «عبدالمنعم مدبولى»، الذى نعيش هذه الأيام ذكرى رحيله، وهو الذى يمثل توريقة وتفريعة هامة من شجرة الإبداع الكوميدى المصرى والعربى، والمعروف بمدرسته الإبداعية، التى لم يفلت من التأثر بمفرداتها أى من نجوم العصر الحالى.. بل ونجوم العصور المقبلة لاقترابها من مزاج الإنسان المصرى المتعطش للانعتاق والانفلات من كوابيس كونية وطبيعية وإنسانية باتت تحاصره، بداية من مسلسلات النكد، ونشرات الأخبار الصعبة، ومرورًا باستفزاز إعلانات الناس اللى همه ناس وإحنا ناس تانية خالص.

فى زمن تقديم فن ومدرسة عبدالمنعم مدبولى فى الخمسينيات والستينيات، كان المتلقى فى حالة أكثر احتياجًا لفنون الإضحاك، بل وحتى فنون الأراجوز، لقد أدرك مدبولى بحس الفنان الذكى الواعى هذا الاحتياج لبشر كانوا إذا أداروا مؤشر الراديو، فإن «أحمد سعيد» فى صوت العرب يذكرهم بأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وإذا أرادوا سماع الأغانى فهى «صوت الجماهير» و«دقت ساعة العمل الثورى»، وإذا ما ذهبوا إلى السينما كانت تنتظرهم أفلام «جميلة بوحيرد» و«الأرض» و«زائر الفجر» و«أبناء الصمت».. فإذا أضفنا تفاصيل الحياة اليومية من صعوبة الحصول على دجاج الجمعية وطابور شاى التموين المغشوش، ووصولًا للبحث عن سنترال للتحدث للبلديات فى صهرجت الكبرى.. فإننا نرى مدى أهمية طرح مدرسة «مدبولى»، بداية من «ساعة لقلبك» حتى «مطار الحب» و«هاللو شلبى»، وكيف كانت تمثل المعادل الموضوعى فى مقابل حالة الشحن الدائم للناس للمزيد من النضال الثورى المعنوى، الذى يبثه الإعلام بكل أدواته، والذى لا يقابله- فى كل الأحوال- فعل إيجابى على أرض الواقع!! وعليه فقد لاقت فنون مدبولى ومدرسته انتقادًا حادًا من جانب أشاوس مسارح الطليعة وكتاب وشعراء مجلة الطليعة ومبدعى السينما والدراما التقدمية، وصار على عبدالمنعم مدبولى ونجوم مدرسته التأكيد، فى كل مقابلاتهم السينمائية والتليفزيونية والصحفية، والرد على الاتهام بأنهم يقدمون كوميديا زائفة تافهة لا تتوافق مع أهداف المرحلة ولا تتسق مع توجهات كل قوى الوطن الشريفة، فإن هدف الضحك للضحك حتى فى أزمنة النضال الثورى الوحدوى الاشتراكى الطليعى الجماهيرى العربى القومى، هو ضرورة للناس تعينهم على أعباء تحقيق أهداف المرحلة!! لقد رأى مدبولى وتلاميذه أنه إذا كان الريحانى ومسرحه وفنونه كانت تنتصر وتنحاز للفقراء فى مواجهة الباشوات الأغنياء ورموز الإقطاع والرجعية من خلال مضامين اجتماعية وإنسانية، فإن مهمة جيلهم باتت أصعب لأن معاناة الناس فى عصرهم لم تعد تقتصر على الفقر ومحاربة الحفاء إلى معاناة شاملة لبشر صاروا فى زمن توهج الفعل الثورى يصارعون طواحين الهواء فى انتظار تحقيق النصر على عدو غاشم وإرجاء كل الأحلام البسيطة المشروعة حتى فى التعبير عن الاحتياج لها من خلال أحزاب أو وسائل إعلام أو فنون أو حتى فى المقاهى أو على المصاطب أمام بيوتهم.

وعليه فإن الضحك للضحك كان هدفًا معقولًا للمدبوليزم خفف عن الناس حالة الاختناق التى كانوا يعيشونها، نتيجة انحسار الاختيارات وتلاشى فرص التنافس والطموح، فالناس تشابهوا فى ملامحهم، وباتوا وكأنهم يتم تجهيزهم ليكونوا أعضاء فى مثابات ثورية للنضال فى حالة توحد مع أهداف الوطن العليا..

رحم الله الفنان العبقرى «بابا عبده»، الذى تحمل هو وأبناء جيله وتلاميذه عبء تحقيق التوازن فى الحالة المزاجية والإنسانية لدى الناس فى تلك المرحلة.. فهل يتقدم فحول الشعر فى زماننا لتأبين الراحل الكبير؟!