رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنهم يخلطون العلم بالسياسة


محطة إذاعية أمريكية محلية أحيت الذكرى الخمسين لهبوط أول إنسان على سطح القمر، بزيارة قبر عالم الصواريخ فيرنر فون براون، الذى يقع فى منطقة قريبة من مقر بث المحطة بولاية فرجينيا، وأذاعت تقريرًا عن هذا العالم، أشادت فيه بدوره المهم فى إنجاح برنامج الفضاء الأمريكى، لكن قبل أن يمر يوم على عرض التقرير اضطرت المحطة للاعتذار عنه، وقامت بحذفه من موقعها الإلكترونى، بسبب ردود الفعل الغاضبة من الاحتفاء بالعالم، ألمانى الأصل، لأنه كان عضوًا بالحزب النازى!.

فيرنر فون براون هو القائل «العلم ليس له بعد أخلاقى»، وهو من رواد تطوير الصواريخ الأوائل، وسبق أن وصفته مجلة «تايمز» بأنه أحد أهم شخصيات القرن العشرين، ورمز لملاحة الفضاء فى الغرب، لكن المجلة الأمريكية لم تغفر له أنه وضع قدراته العلمية فى خدمة آلة الحرب النازية، ووصفته أيضًا بأنه «مجرم حرب»، كما كانت مسئوليته، ولا تزال، عن سقوط ضحايا بسبب صورايخ «فاو ٢»، التى قام بتطويرها لصالح الجيش الألمانى، محل جدل ونقاش.

بانتهاء الحرب العالمية الثانية، طار «براون» إلى الولايات المتحدة، فى ١٨ سبتمبر ١٩٤٥، وعمل لدى الجيش الأمريكى، و«كما فى ألمانيا النازية وضع فون براون حلمه فى بناء صاروخ ذى قوة خارقة فى السياق السياسى العسكرى»، كما جاء فى سيرة حياته التى كتبها يوهانس جايير، وبعد أن تمكن الاتحاد السوفيتى سنة ١٩٥٧من إطلاق مركبة «سبوتنك»، لتكون أول قمر اصطناعى يدور حول الأرض وأتبعه بـ«سبوتنك ٢» فى السنة نفسها، أصيب الأمريكيون بما سمى «صدمة سبوتنك». وعلى إثرها قامت الولايات المتحدة، سنة ١٩٥٨ بإطلاق قمرها الصناعى الأول إلى الفضاء على متن صاروخ قام «براون» بتطويره.

سباق الفضاء بين الاتحاد السوفيتى السابق والولايات المتحدة، سبقه سباق آخر بين القوتين العظميين، لاقتناص العلماء الألمان، وبفضل من اقتنصهم السوفيت، تم إطلاق «سبوتنك»، إذ كان رئيس فريق عمل تطوير الصاروخ الذى حمله، هو هيلموت جروتروب، الزميل السابق لفون براون، لكن عندما سألت لجنة جائزة نوبل موسكو عن صاحب هذا الإنجاز لمنحه الجائزة، أجاب رئيس الدولة، نيكيتا خروتشوف، بأنه كان إنجازًا عامًا للشعب السوفيتى.

سنة ١٩٦٠ نقل الرئيس الأمريكى آيزنهاور تبعية مركز تطوير الصواريخ من الجيش إلى الوكالة الوطنية للطيران والفضاء «NASA»، التى كان هدفها الرئيسى فى ذلك الوقت، هو تطوير صواريخ زحل «Saturn» العملاقة، وصار «براون» مديرًا لمركز مارشال لبعثات الفضاء، وتابع تطوير الصاروخ Redstone-Mercury، الذى حمل آلان شيبارد، أول رائد فضاء أمريكى، فى ٥ مايو ١٩٦١ خلال رحلته شبه المدارية. وإثر نجاح رحلة شيبارد أعلن الرئيس الأمريكى، جون كينيدى، عزمه إرسال رجل إلى القمر قبل نهاية ستينيات القرن الماضى، وخلال رئاسته مركز مارشال بين عامى ١٩٦٠ و١٩٧٠، قام «براون» بتطوير صاروخ زحل ٥ «Saturn V»، الذى حمل مركبة الفضاء «أبوللو ١١» إلى القمر، فى ٢٠ يوليو ١٩٦٩، وعلى متنها رائد الفضاء نيل أرمسترونج، أول إنسان هبط على سطح القمر.

لم يكن «براون» هو العالم الألمانى الوحيد، الذى شارك فى البرنامج الفضائى الأمريكى، بل كان واحدًا بين ١٢٠ عالمًا، من بينهم، مثلًا، زميله كورت ديبوس الضابط السابق فى وحدات «إس إس»، تلك المنظمة شبه العسكرية التى كانت تابعة للحزب النازى، وهؤلاء الـ١٢٠ كانوا بين ١٦٠٠ عالم، قامت المخابرات المركزية الأمريكية باستقطابهم، أو باقتناصهم، فى واحدة من أنجح عملياتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

بجانب ذلك، نجحت الولايات المتحدة، وغيرها من دول الحلفاء، فى اقتناص إنجازات ومبتكرات علماء نازيين كثيرين، مثل مركبات غاز الأعصاب كـ«السارين» و«التابون»، وهى المركبات التى تمت الاستفادة منها، لاحقًا، فى تطوير مبيدات حشرية وأسلحة دمار شامل، وكذلك مادة «الكلوروكين» المضادة للملاريا، ومسكن للألم يحمل اسم ميثادون، كما تمت الاستفادة أيضًا من أبحاث ودراسات عديدة أجراها العلماء الألمان وتم السطو على كل المنجزات التى شهدتها الحقبة النازية فى مجالات مختلفة.

هذه المنجزات تم «ويتم» تجاهل أصحابها بسبب توجههم السياسى، أو بزعم مسئوليتهم عن جرائم ارتكبها حزب انتموا إليه، أو جيش الدولة التى يحملون جنسيتها. ومع ذلك، يريد منك البعض، هنا أو هناك، أن تتغاضى عن سقطات وجرائم آخرين لعبوا «ويلعبون» أدوارًا بالغة القذارة والانحطاط، لمجرد أن بين هؤلاء الساقطين من يعمل فى وكالة «ناسا»، أو كان موظفًا «أو مستعملًا» فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو يحمل درجة علمية، لم تمنعه من السقوط فى فخاخ أجهزة مخابرات دول معادية، أو التخديم، بجهل أو عن سبق إصرار، على تنظيمات إرهابية.