رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عُقَد المدهش الذى جسد نفسه على الشاشة



منح المخرج الكبير يوسف شاهين حياته كلها للسينما، أخرج وكتب ومثل وحوّل الكثير من حوادث حياته وكوابيسه وعقده الكبرى إلى أفلام حصدت الجوائز فى أكبر المهرجانات السينمائية الدولية.
كسر أخطر تابو فى حياة المبدعين، وهو الحكى عن الذات، فقدم من حياته تفاصيل شديدة الخصوصية، لم يجرؤ مبدع آخر على الحديث عنها ولو همسًا، وكأنه يريد أن يقول «هكذا أنا.. إما أن تقبلونى أو ترفضونى»، وبسبب جرأته وحماسته التى لم تهدأ حتى آخر يوم فى حياته، وبسبب عشقه وتفانيه فى فنه، دخل تاريخ السينما المصرية والعالمية من أوسع أبوابه، واختيرت سبعة من أفلامه، ضمن أفضل مائة فيلم قدمتها السينما المصرية خلال مائة عام.
لكل مبدع عقده الخاصة ومعاناته التى اعتصرته فى مطلع شبابه، وجعلته يبحث عن فضاء أرحب يحلق به، بعيدًا عن واقع يشعره بضعفه حينًا وبفقره أحيانًا.
وبدأت معاناة يوسف ابن العائلة «الزحلاوية» المهاجرة من لبنان، بحثًا عن حياة أفضل، والتى كانت تعتبر الإسكندرية نقطة فى طريق الهجرة، لكنها أصبحت المحطة الأولى والأخيرة، كان طبيعيًا لأسرة متطلعة أن تُلحق ابنها بمدرسة فيكتوريا أو «فيكتوريا كوليدج»، التى درس فيها أبناء الأغنياء، ودرس فيها الملك حسين وعمر الشريف وغيرهما، لكنهم لم يدركوا أنه سيعانى وسط أبناء الأثرياء من حذائه الممزق، وعدم قدرته على شراء ملابس مناسبة، فكان الصراع الأول الذى خلق دراما يوسف شاهين، ففى محاولة للتميز هرب إلى عالم التمثيل، وقف أمام أقرانه ليمثل دور «ريتشارد الثانى» فى مسرحية شكسبير وهو يتنازل عن العرش، أخرج كل طاقات غضبه وحزنه وخر باكيًا فى نهاية المشهد، فصفقوا له بحرارة، واعتبروه نجمًا مميزًا منذ ذلك اليوم، وبسبب هذه الموهبة باعت الأسرة قطعًا من أثاث بيتها لتمكنه من السفر إلى الولايات المتحدة لدراسة الفن، وهناك اكتشف أنه لا يصلح لأن يكون ممثلًا، لكن المقاتل العنيد عاد ليصبح مخرجًا وعمره ٢٣ سنة فقط فى فيلم «بابا أمين».
بعد عقدة الفقر، كانت هناك عقدة هاملت، هذا الأمير الدنماركى الشهير الذى جسده شكسبير فى مسرحيته الخالدة، وقيل إنه كان هو صورة يوسف شاهين الغائبة فى المرآة، اجتمع على حبه مع عبدالحى أديب فى أول لقاء بينهما، قبل فيلم باب الحديد، وقدمه فى العديد من أفلامه.. «باب الحديد»، و«الاختيار» و«حدوتة مصرية» و«عودة الابن الضال»، وأيضًا «إسكندرية نيويورك». بجرأة لا مثيل لها حاكم يوسف شاهين نفسه، وأمه وأباه فى فيلم «حدوتة مصرية»، على خلفية الصراع بين هاملت وأمه وعمه، ألمح إلى أن أمه بها من صفات أم هاملت، وكان يعطيها المبررات فى حواراته، فهى المرأة الشابة الجميلة التى زوجوها من رجل يكبرها بخمسة وعشرين عامًا، ولكن المبررات تخفف نار العقدة ولا تطفئ لهيبها المتوقد داخل أعماق النفس البشرية. فى فيلمه «العصفور» تتجلى شخصية هاملت مرة أخرى، من خلال بطل الفيلم الصحفى المثالى «يوسف» الذى يقول لصديقه هناك من وقف على خشبة المسرح وقال: فى الدولة الدنماركية شىء من العفن، الناس صفقت له، لكن قالت عليه مجنون.. وكان رءوف بمثابة هاملت آخر يتهم أمه بقتل أبيه الذى قيل إنه انتحر، حيث يقول لها «انتحر لما عرف بالعلاقة بينكما».
ويفتتح يوسف شاهين فيلمه «إسكندرية كمان وكمان» بأغنية «أكون أو لا أكون» العبارة الخالدة على لسان هاملت فى مسرحية وليام شكسبير، وحتى وهو يتحدث عن قصة ارتباطه وتعلقه بنجمه الشاب، تأتى لحظة انفصال النجم الشاب عنه، قبل أن يبدأ تصوير فيلم «هاملت». إنه ارتباط نفسى كبير بهذه الشخصية الشكسبيرية المعذبة، التى تفشل دائمًا فى الانتقام ويتحول هذا الفشل إلى عقدة أشبه ببركان خامد داخل النفس، لا تعرف متى يثور ولا كيف يمكن إخماده.
ولا أجد فى الحقيقة تجسيدًا لهذه العقدة أفضل من تجسيده لها، عندما قال فى أحد حواراته الصحفية: فى الوقت الذى اكتشفت فيه أن الأم ليست العذراء، اكتشفت أيضًا شخصية هاملت ووقعت فى غرامها، لا أنسى اللحظات التى كنت أشعر فيها بحزن شديد، كنت أغلق باب حجرتى وأنخرط فى نوبات بكاء حادة، وعندما يدخل علىّ أحد من أهلى كنت أقول لهم: أنا بأمثل هاملت وأبكى لأنى اندمجت فى مشاهدها المؤثرة، خاصة أننى أرفض أن يعرف أى شخص منهم أننى أبكى.
لقد استطاع يوسف شاهين أن يقدم كابوسه الأول الذى يؤرقه فى يقظته ومنامه، وهو كابوس هاملت فى العديد من الأفلام، لكنه قدم أيضًا كوابيس أخرى فى حياته عن قصص حبه ونزواته، ورؤاه حول العديد من القضايا التى أثارت حوله الجدل، كما فعل خلال تعرضه لقصة النبى يوسف عليه السلام فى فيلمه «المهاجر»، وكما فعل فى تناوله سيرة الحملة الفرنسية فى فيلم «الوداع يا بونابرت» وغيرها من الأفلام التى حصدت الجوائز العالمية. والحقيقة أن أغلب النقاد لا يختلفون حول عبقرية يوسف شاهين الإخراجية، ولكن الكثيرين منهم يبدى عدم إعجابه بالحوارات التى كان يصر على كتابتها بنفسه، خاصة أنه كان يكتبها بالفرنسية ثم تتم ترجمتها، كما يختلف النقاد حول إيمانه بقيمة الممثل، ويضربون مثلًا على ذلك بما حدث فى فيلمه «اليوم السادس» الذى اختار له فى البداية سعاد حسنى، ثم محسنة توفيق، ثم فردوس عبدالحميد، وأخيرًا استقر على داليدا، ولهذا قيل إن يوسف شاهين لا يؤمن بالممثلين، بل كان يرصهم كقطع الشطرنج.. ليتحدثوا بطريقته ويتحركوا بأسلوبه، ليظل هو الأستاذ الوحيد. من الطبيعى أن يختلف النقاد حول أسلوب عمل يوسف شاهين، بعد هذا التاريخ الطويل والعطاء الممتد، لكنهم لم ولن يختلفوا على أنه واحد من أهم عباقرة الإخراج فى تاريخ السينما المصرية، وأن سينما يوسف شاهين سبقت زمنها، وأن أفلامًا كثيرة له هوجمت بضراوة عندما عرضت لأول مرة فى دور السينما، لكنها أصبحت بعد عقود محل إعجاب جمهور التليفزيون فى سهراته المنزلية.. وربما كان هذا أحد معالم عبقريته أيضًا.