رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جدل الدين والحرية «2»


عرضنا فى المقال السابق جانبًا من الأفكار الثرية التى طرحها الأب «وليم سيدهم اليسوعى» فى كتابه القيّم المعنون بـ«قضية التنوير ولاهوت التحرير»، الصادر فى طبعته الثانية مؤخرًا، وفى هذا العرض نستكمل النظر إلى بعض ما احتواه الكتاب من قضايا وآراء.

يحتل موقف الكنيسة من أحوال ومعضلات المجتمعات الإنسانية موقعًا محوريًا فى فكر «لاهوت التحرير»، انطلاقًا من إدراك الجانب الروحى العميق جوهر مسيحية المسيح «المُخَلِّص»، المنحازة إلى الإنسان، والتى تم «تأميمها» لصالح الاحتكارات الرأسمالية المهيمنة، ليس فى أمريكا الجنوبية وحسب، حيث لـ«لاهوت التحرير» أرضية صُلبة، وإنما أيضًا فى إفريقيا، وآسيا، فضلًا عن الولايات المتحدة وجميع دول الغرب والعالم. لقد حوّلت الرأسمالية الاحتكارية الرسالة المسيحية عن مضمونها الأصلى الإنسانى التوجُّه، إلى أداة سيطرة وإدامة لتأمين مصالحها الكبرى، حسب «الأب جوتيريز»، أحد المُنظِّرين الكبار لفكر «لاهوت التحرير»، الذى يرى أن «الرسالة المسيحية أصبحت مُجرد عنصر من عناصر الأيديولوجية المُسيطرة».. و«أن الحماية التى تتلقاها الكنيسة من الطبقة الاجتماعية المستفيدة من الوضع القائم، تتلقاها بصفتها مُدافعة عن المجتمع الرأسمالى المُسيطر فى أمريكا اللاتينية، وهذا ما يجعل الكنيسة جزءًا من النظام القائم»، ونحن نعرف أن هذا هو الحال القائم فيما يخص «المؤسسة الدينية» فى العالم الإسلامى أيضًا.

ومن المهم أن نرى إلى نقد «لاهوت التحرير» للدور الذى لعبته الكنيسة الرسمية فى تسويغ الاحتلال الغربى والنهب الإمبريالى لثروات شعوب العالم المقهورة، بل ولاستعباد ناسها على نحو ما حدث فى إفريقيا، وهو ما عبَّرَ عنه «جوموا كينياتا» الزعيم الإفريقى الكبير بقولته الشهيرة: «حينما أتى المبشرون إلينا، كان الإفريقيون يملكون الأرض والمُبشرون يملكون الكتاب المُقَدَّس. وقد علمونا كيف نصلى بعيونٍ مُغلقة، وحينما فتحنا عيوننا كانوا قد أخذوا الأرض وتركوا لنا الكتاب المُقَدّس».

ولا يكف الأب «وليم سيدهم» عن دق نواقيس التنبيه، ولفت الأنظار إلى خطورة تجاهل رجال الدين للحياة بتفاعلاتها ودينامياتها، وإصرارهم على بقاء الدين أسيرًا للمعبد والكنيسة والجامع، وللرؤية الساكنة، بعيدًا عن فضاء الوجود والحرية الرحب، وهو يطرح فى كتابه قضيته المحورية «هل نستطيع أن نُبدع لاهوتًا تحرُّريًا إسلاميًا مسيحيًا، بالتعاون مع أصحاب الديانات الأخرى، يتخذ من الروحانية التى تحملها أدياننا ترياقًا ضد الجمود والازدواجية والتعصُّب؟ هل نستطيع أن نجعل من النماذج الرائدة فى الرهبانيات المسيحية بروافدها المختلفة، والتصوّف الإسلامى بمدارسه المُتعددة، مُنطلقًا إلى التنمية الاقتصادية والبشرية والحضارية، يربط روحانية الديانتين للوقوف سدًا منيعًا فى وجه قانون «اقتصاد السوق»، الذى يُنذر بالتهام الأخضر واليابس من قيمنا الثقافية والحضارية وفى وجه الدعوة للاستهلاك السفيه؟.

وأخيرًا، يلفت الأب «وليم» نظرنا إلى حاجة بلادنا إلى فهم دينى منفتح ومشتبك مع قضايا الوطن ومُشكلاته وهمومه، حتى لا نترك مجتمعاتنا نهبًا لقوى التطرّف والعنف والإرهاب تغتال روح الدين السمحة وتحوله إلى قنبلة شديدة الانفجار، لا تُهدد وجودنا وحسب، بل والدين ذاته، ويتساءل طارحًا تساؤلاته على كل المجتمع: «كيف نجعل الديانتين: (الإسلامية والمسيحية)، طاقتين للنور والإبداع والتحرر من الخرافات ومن العقليات المُتَحَجِّرة؟، كيف نمارس التفسير المستنير الذى يدفعنا إلى الأمام، ويشحذ هممنا فى الإبداع على كل صعيد، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الفن والثقافة؟».

وتبقى الإشارة إلى أن من أهم محتويات الكتاب تلك التى تتناول بالشرح والتحليل والنقد الموضوعى والتقييم أوضاع وبعض أفكار المصريين المسيحيين، وبالذات من الجماعة الكاثوليكية المصرية، التى يصفها بـ«أقليّة الأقليّة»، مُعرِّفًا أبناءها بأنهم: «وُلدوا فى مصر، وتربوا فى مدارسها، وترعرعوا على ضفاف نيلها، وشربوا عاداتها وتقاليدها».