رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ترامب وفن صناعة الأعداء


سواء نجح الرئيس دونالد ترامب فى الفوز بفترة رئاسة أخرى أو فشل، فسوف يتوقف العلماء والمُحللون كثيرًا أمام شخصيته المستفزة، وتوقيعه الضخم على القرارات الرئاسية، الذى يعكس مدى نرجسيته الشديدة، ويشير إلى أنه شخصية تحمل نزقًا كبيرًا، وقدرة لا مثيل لها على صناعة الأعداء، بل وتحويل أقرب الحلفاء إلى كارهين وحاقدين حتى ولو لم يتمكنوا من إعلان عدائهم بشكل واضح.

مرت هذه الأفكار على خاطرى وأنا أتابع خلال الأسبوع الماضى سيل التهكم والإهانات الفريد من نوعه، الذى وجهه ترامب إلى «حليفه الجيد وصديقه الرائع» أمير دويلة قطر كما وصفه، حيث تعمد إذلاله على الهواء مباشرة، وإحراجه بصورة لم تحدث من قبل، عندما كشف عن أن أمير قطر أنفق من أموال دويلته ثمانية مليارات لبناء وتوسعة قاعدة العديد الجوية فى قطر، ليستخدمها الأمريكيون كأكبر قاعدة جوية خاصة بهم، يشنون منها هجماتهم على من يخرج عن طاعة «ماما أمريكا»، وقال له بلهجة ضاحكة ساخرة: «الحمد لله أنكم فعلتموها بأموالكم وليس بأموالنا»، وخلال هذا اللقاء عرفنا جميعًا أن «تميم المجد الزائف» دفع لحليفه ترامب، الذى يلقبونه بـ«صانع الصفقات» ١٨٥ مليار دولار، ليضمن له البقاء على العرش الذى سرقه مرتين، مرة من إخوته والأخرى من أبيه الذى أصبح بسببه عدوًا لكل العرب.

هذه ليست المرة الأولى التى يُهين فيها «صانع الصفقات» المعروف باسم دونالد ترامب حلفاءه، علنًا وعلى الهواء مباشرة، وهو لا يستثنى أحدًا من الحلفاء حتى الأوروبيين- وليس العرب وحدهم- والروس أيضًا.

ففى مقابلة أجرتها معه شبكة سى إن إن، فى العاصمة الفنلندية هلسنكى فى شهر يوليو ٢٠١٨، وكان ذلك عشية لقائه الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، قال ترامب إن «روسيا والاتحاد الأوروبى والصين أعداء للولايات المتحدة بسبب ما تفعله بنا فى التجارة، روسيا هى عدو فى بعض الجوانب، والصين عدو اقتصادى، بالتأكيد هى عدو».

ولا أحد ينسى هذا الاستقبال المُهين فى أول لقاء بين ترامب والمستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، وكيف تعمد عدم مصافحتها، ثم كيف أعلن فى حوارات تالية عداءه لألمانيا لأنها تدفع لروسيا مليارات الدولارات.

ورغم عدم اتفاق الكثيرين مع سياسة سلطان تركيا المزعوم، فلقد جذب ترامب الانتباه للطريقة التى يتعامل بها مع أردوغان والتصريحات المُهينة له، عقب إعلانه عن اتخاذ خطوات لشراء منظومة الدفاع الروسية «إس ٤٠٠»، وقد ذهبت تهديدات ترامب هباء حتى الآن، حيث وقع أردوغان الصفقة وبدأ يتسلم الدفعات الأولى من المنظومة الصاروخية، التى قيل إنها مُصممة خصيصى لإسقاط أحدث المقاتلات الأمريكية وهى «إف ٣٥».

الحقيقة أن ترامب الذى تحول بشكل غير متدرج، من رجل أعمال إلى رئيس أقوى دولة فى العالم، أسعده كثيرًا أن تلقبه الصحف الأمريكية بـ«صانع الصفقات»، وقد زاده هذا الزهو غرورًا، فوجه إهاناته إلى الجميع خاصة حلفائه العرب، فأطلق سيلًا من التصريحات المُسيئة بداية من «نحن لن ندافع عنكم مجانًا، سوف تدفعون ثمن دفاعنا عنكم»، ومرورًا بـ«أنتم لا تملكون سوى المال وسوف نأخذه منكم»، وانتهاء بتوقيع قراره المشين، بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية لدولة الاحتلال الإسرائيلى.

نعم لقد حصل صانع الصفقات بالفعل على صفقات وعقود بآلاف المليارات، سوف تنفذ على مدى سنوات وربما تلى خروجه من البيت الأبيض، ولا أحد يعرف إذا كانت ستنفذ وقتها أم لا، لكن صانع الصفقات فاز بمزيد من الكراهية والرفض لقراراته، فحقق إخفاقات تاريخية، حيث هزم القرار الأمريكى على أرض سوريا، فبقى الأسد- رغم كل ما عليه- فى الحكم، وأصبح القرار الأول بيد روسيا وإيران، وتضاءل النفوذ الأمريكى هناك، وحيث تحولت ما سمى «صفقة القرن»، إلى فقاعة القرن التى رفضها الجميع، وبعد سنوات من الترويج والتهليل لها، انطبق عليها المثل الشهير «تمخض الجبل الأمريكى فولد فأرًا».

صانع الصفقات تلقى أيضًا مزيدًا من الصفعات من الصين، التى ترد على كل قرار عقابى له بخطوات مُؤلمة، كما أثبت الزعيم الكورى الشمالى كيم أونج أون، أن قرارات ترامب وتهديداته كلها لا تساوى ثمن الحبر الذى كتبت به، وأن توقيعاته العنكبوتية لا تهز شعرة فى رأسه بدليل أن ترامب هو الذى ذهب إليه وليس العكس.

ربما لا يكون الرئيس الأمريكى صانع الصفقات، قد قرأ هذا الكتاب الشهير، الذى أصدره فى ثمانينيات القرن الماضى الأمريكى «ديل كارنيجى» تحت عنوان «كيف تصنع الأصدقاء وتؤثر فى الناس؟»، الذى باع ١٦ مليون نسخة، لأنه بالتأكيد لا وقت لديه للقراءة، ولو كان قد فعلها لتأثر بنصائح كارنيجى وأهمها فى اعتقادى: اعط الناس الشعور بالأهمية، وامدح ما تراه جيدًا فيهم، اجعل الناس تفعل ما تريده منهم بإثارة رغباتهم، اجعل الناس تشعر بأنها مهمة، اهتم بهم وافعل كل ما يحبونه وقم بمساعدتهم إذا احتاجوا منك المساعدة، حاول أن ترى الأشياء من وجهة نظر الشخص الآخر، أظهر تعاطفك مع الآخرين، وشاركهم أحزانهم وأفراحهم، كن معهم فى وقت الشدائد والصعاب، ميِّز بين المعقول وغير المعقول، وأخيرًا إن كنت مُخطئًا فاعترف بهذا بسرعة ثم ابتسم.

أعتقد أن الرئيس الأمريكى، الذى لا يقرأ، لم يعرف كيف يصنع الأصدقاء، فتحول إلى أمهر السياسيين فى صناعة الأعداء خلال العصر الذى نعيشه، خاصة أن صناعة الأعداء لا تحتاج إلى مهارات عالية. فيكفى أن تضيق على الناس، وأن تتهم البعض بما ليس فيهم، وألا تترك من يمشى «بجوار الحائط» فى حاله.

إذا كنت تريد أن تصبح من أمهر صُناع الأعداء، فافعل كما يفعل ترامب: تحرش بالجميع حتى أقرب حلفائك، ضيّق على الناس فى أرزاقهم، لا تجعل أحدًا يثق بك أو بأنك ستكون سندًا له إذا احتاجك.. افعل كل هذا وستجد النتائج مُبهرة، فسوف يتحول من كان على استعداد لأن يمنحك روحه وحياته وقلبه لقضيتك.. إلى عدو متربص شامت ينتظر لحظة سقوطك.