رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جدل الدين والحرية 1


هذا كتاب مهم، بل بالغ الأهمية، أتمنى لو عكف كل المهتمين بمصر وناسها، بل والإنسان عامة، على قراءته واستيعاب مضامينه النبيلة، لأنها تصب فى صالح بناء حياة سعيدة للوطن والمواطنين، فتنتصر للإنسانية، وتخلو من التعصُّب، وترفض الظلم والبؤس والضغينة، وتربط ربطًا موضوعيًا بين قضيتى «الدين» و«الحرية».

الكتاب عنوانه: «قضية التنوير ولاهوت التحرير»، ومؤلفه واحد من أبناء هذا الوطن ومُحبيه الكبار الأب الفيلسوف والمُربّى «وليم سيدهم اليسوعى»، وقد قدّم لطبعته الأولى المفكر الإسلامى المستنير الراحل الأستاذ «جمال البنا»، أمّا قضيته التى يطرحها فهى وليدة «فلسفة الأنوار» التى سادت أوروبا فى القرن التاسع عشر، و«جعلت من العقلانية منهجًا شبه مطلق فى دراسة النص الدينى»، حيث «ظهرت المناهج المختلفة لدراسة النص الدينى المسيحى دراسة نقدية تعتمد على الأنواع الأدبية والظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية التى أسهمت فى إنتاج النص وبقية الظواهر الإنسانية، وامتد تأثيرها حتى الآن بعد أن توالت انتصارات العلم التجريبى».

وهذا الفهم المنفتح للنص الدينى المُقَدَّس وعلاقته بالواقع لم يكن غريبًا بالمطلق عن واقعنا، فقد جرت فى بلادنا محاولات عديدة لمفكرين أجلّاء، من القرن التاسع عشر وحتى الآن، كما يقول المؤلف، «اجتهدت لتُقيم علاقة متوازنة بين الجانب العقلانى وما هو إيمان فى النصوص المُقَدَّسة، فمن محمد عبده إلى على عبدالرازق وطه حسين والعديد من المُفكرين المُجتهدين فى أيامنا».

يُزين صفحات الكتاب مقتطف للأب «أوسكار روميرو» يقول: «الإيمان الذى يكتفى بحضور قُدّاس الأحد، ويقبل الظلم طوال الأسبوع لا يقبل به الرب»، وهى كلمات تدين التنطع باسم التدين الشكلى، فكم نرى حولنا من فساد وانحرافات يَحُض الدين على التصدى لها، تمر مرور الكرام دون أن ينتبه الناس إلى وجوب مجابهتها، وإلى أن «الدين المعاملة»، وأن الإيمان الحق لا يقبل بصلاة تُقام وسط عالم من المظالم والجرائم والمفاسد والتجاوزات، وأن واجب المؤمن الحقيقى مواجهة الخطأ، ودرء الدنايا بكل السُبل التى لا تتعارض مع الدعوة الدينية الصافية للتراحم والتواد والتعارف والمرحمة، وبعيدًا عن العنف والإرهاب باسم الاتباع المزعوم لـ«صحيح الدين» و«ميراث السلف».

ما هو إذن تعريف «لاهوت التحرير»، كما يعرضه الكاتب فى صفحات كتابه القيّم؟ إنه: «تيار يحاول أن يجعل من الإيمان بالله والعلاقة به مصدر قوّة محركة للإنسان أينما كان ودافعًا للبناء»، ولكى يكون «الإيمان» قوّة مُحررة للإنسان يجب أن يتجاوز الوعى الإنسانى محاولات «الخلاص الفردى» بالارتقاء إلى وعى الضرورة: «الخلاص الجماعى».

فمنهج «لاهوت التحرير» يركز جل اهتمامه على تبيان «تضامن الله وخلاصه لكل الناس قاطبة»، خاصة الفقراء منهم، وأن «تحرير الإنسان لا يتم من خلال طقوس مُعيَّنة يقوم بها الفرد» وحسب، «وإنما من خلال ربط هذه الطقوس وهذه المعتقدات بالواقع الذى يعيش فيه عالمنا، وذلك بالتضامن مع أخوتنا فى الإنسانية قبل أن نتحدث عن أخوتنا فى الدين وأخوتنا فى الوطن».

ولذلك، وانطلاقًا من منظور لاهوتى يُغذيه الإيمان بمحبة الله للمظلومين والمضطهدين والمستضعفين فى الأرض، لا يجد «الأب وليم سيدهم اليسوعى» أى غضاضة، أو يرى أى موانع دينية تحول دون أن يُعلن انحيازه الواضح لحق أبناء شعب فلسطين، فـ«عنصرية المتطرفين اليهود اليوم وأتباعهم لن تمر» ولا بد من أن يعترفوا، ويعترف الجميع، بـ«قيامة الشعب الفلسطينى وإعلان دولته واستقلاله واحترام حقوقه الأساسية»، مُذكّرًا أهله ورعاياه بالوجود المادى الصامد لمئات الآلاف من المسيحيين الفلسطينيين، فى فلسطين، وبالدور القيادى الذى لعبوه فى قيادة كفاح شعبهم، ممثلًا فى قياديين مناضلين من نوع «جورج حبش» و«نايف حواتمة» وغيرهما.