رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد أفندى رفع العلم


كنا ونحن ما زلنا تلاميذ نقف صباح كل يوم فى فناء المدرسة، لنقوم بتحية العلم قبل دخولنا إلى الفصول، ننتظر من دون حماس أن ننتهى من ذلك الواجب، لكن ما إن يرتفع العلم فى السماء، وتهتز أطرافه حتى نرتجف، وتشملنا هزة شعور بقدسية الوطن. لقد غرست فينا المدرسة حب ذلك العلم الذى يكرم الإنسان عند موته، بأن يلفوا به جثمانه، كأنما دثروه بوطنه وبذكريات بلاده وحبها. وهو العلم الذى كتب عنه صلاح جاهين: «كل نجمة فى العلم، وكل لون، غزلتهم، نسجتهم، صبغتهم، نور من عنيك، الله عليك».
توفى فى الأول من مايو جندى مصرى بسيط هو محمد أفندى العباسى عن عمر ناهز اثنين وسبعين عامًا، كان أول من رفع العلم على الضفة الشرقية لقناة السويس فى حرب أكتوبر ١٩٧٣. ولد العباسى بمدينة القرين بمحافظة الشرقية، وهى مدينة باسلة عرفت بمقاومة أهلها معسكرات الاحتلال الإنجليزى، وحصل فيها على الشهادة الإعدادية، والتحق بالجيش، فأصبح جنديًا فى سلاح المشاة بإحدى الكتائب فى مدينة الإسماعيلية، وقضى ست سنوات فى الجيش من يونيو ١٩٦٧ حتى حرب أكتوبر، وكان مع الآخرين يترقب لحظة العبور والتحرير، وقال عنها إنها: «اللحظة التى طال انتظارها» بعد سنوات من التدريب المكثف، وعندما حانت ساعة الصفر كان العباسى فى طليعة المتقدمين إلى إحدى الدشم الحصينة بخط بارليف، وعندما تمكن المصريون من تلك النقطة العسكرية، هتف العباسى بفرحة غامرة يخاطب قائد الكتيبة: «مبروك.. ألف مبروك»، فرد عليه: «مبروك يا عباسى وارفع علم مصر يا بطل»، فقام بإنزال العلم الإسرائيلى، ورفع علم مصر ليرفرف فوق أول نقطة مصرية يتم تحريرها فى حرب أكتوبر. وقد شيع المئات من أبناء مدينة القرين، جنازة العباسى وقد لفّ نعشه بالعلم المصرى الذى رفعه عاليًا من قبل. أبطال كثيرون فى مصر، وفى شعبنا، يرفعون الأمل ويغرزونه عاليًا، بعضهم أحياء وبعضهم شهداء مثل النقيب مصطفى محمد شعبان شهيد عملية العريش الإرهابية فى ٢٥ يونيو وكان معه ستة جنود سقطوا شهداء منهم هشام محمود ومصطفى عدلى وآخرون. وقد تقدم النقيب مصطفى وهاجم الإرهابى المفخخ والسيارة التى معه بشجاعة منقطعة النظير، ليوقف التفجير فى منطقة الرفاعى. لا يكف أبناء الوطن عن رى بلادهم بدمائهم، ولا يكفون عن فتح أبواب المستقبل. ويقول صلاح عيسى فى كتابه المهم والجميل «هوامش المقريزى»: «إنه فى أثناء ثورة ١٩، مات الكثيرون كى لا يسقط علم مصر فى التراب، كان من بينهم طلبة صغار وشبان ومتشردون لا مهنة لهم»، ويروى الأستاذ العقاد فى كتابه عن سعد زغلول أن ثلاثة عشر مصريًا قد تبدلوا على علم مصر، يسقط الواحد منهم شهيدًا وهو يحمل العلم، فيحل محله آخر يتقدم ليحمل العلم من دون لحظة خوف أو تردد. ويقول صلاح عيسى- نقلًا عن الدكتور على إبراهيم باشا- إنه فى أثناء ثورة ١٩ حملت سيارة الإسعاف إلى قصر العينى صبيًا فى الخامسة عشرة من عمره، وكان الصبى، كما وصفه الدكتور على إبراهيم، لا يبدو طالبًا أو صانعًا، وعندما سأله الطبيب عن مهنته أجابه ببساطة: «أنا متشرد»، فابتسم له الطبيب وقال له: «وماله.. لكن مصرى ووطنى».
هذه هى مصر لا يكف الورد فيها عن النماء، ولا يخمد الأمل، ويظل أبناؤها يعطون كل ما لديهم، ليبقى اسم مصر التى قال عنها صلاح جاهين: «أنا مصر عندى أحب وأجمل الأشياء، بأحبها وهى مالكة الأرض شرق وغرب، وبأحبها وهى مرمية جريحة حرب».