رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مَنْ يدفع ثمن خراب بغداد؟


اعتراف الرئيس الأمريكى «ترامب» بأن من وقف خلف هجمات 11 سبتمبر، «لم يكن العراق، بل كانوا أشخاصًا آخرين، وأعتقد أننى أعرفهم!»، (الأهرام، 1962019)، أعادنى إلى مناخ السنوات الأولى من الألفية، حينما تم تلفيق تهمة تفجير برجى التجارة العالمى، والادعاء بامتلاك أسلحة نووية وبيولوجية وكيماوية، لنظام الرئيس العراقى الأسبق «صدّام حسين».
ما زالت صورة «كولن باول» ماثلة فى ذهنى، وهو يشرح على نماذج مصورة، مكونات حاويات المتفجرات النووية الملفّقة ومزاعمه عن الخطر الداهم الذى يمثله بقاء نظام صدام، ووجوب الإطاحة به، قبل أن يستخدمها فى تهديد العالم وتخريب ازدهاره واستقراره، وسط حملة دعائية كاذبة وشرسة، شارك فيها قادة دول «الغرب الديمقراطى»، صُرفت عليها المليارات من خزائن نفط الخليج، لتبرير هذا المنحى الإجرامى، الذى ترتبت عليه أهوال عاناها الشعب العراقى، وعانتها شعوب المنطقة، وما زالا يرزحان تحت وطأتها الثقيلة.
وأذكر أن جماعة من الوطنيين المصريين، تضم أطباء وسياسيين وصحفيين ومثقفين وفنانين، كنت من بينهم، ومنهم الكثيرون كانوا رافضين صدام ونظامه، تنادوا لمحاولة «كسر الحصار» الهمجى الذى فرضته الولايات المتحدة ودول الغرب على العراق، فأحالت حياته جحيمًا، فكوّنوا وفودًا منهم، وحملوا معهم ما تيسر من الأدوية والعلاجات التى يحتاجها المرضى والمصابون العراقيون بشدّة، والمفتقدة بسبب القيود الأمريكية، وقد تسنّى لى فى هذه الزيارات التعرّف، عن قُرب، على أبعاد الكارثة الإجرامية البشعة التى ارتكبت بحق العراق وشعبه، وبالذات أطفاله، جراء الحصار الظالم، والعدوان المستمر، واستخدام الأمريكيين «اليورانيوم المُنَضَّب» فى القذائف التى أُلقيت على الأرض العراقية.
وقد زرنا آنذاك «ملجأ العامرية» المعروف، والذى كان يأوى المئات من الأطفال الأبرياء، واستهدفه الأمريكيون بقذائف خطيرة استهدافًا مُباشرًا، أتى على كل من كان فيه من الأطفال حرقًا وإذابة، بصورة يقشعر لها البدن، وكانت أشلاء أجساد الضحايا البريئة، وحدقات عيونهم، ملتصقة بحوائط الملجأ من فعل انفجار القنابل الأمريكية، فى صورة مُصغّرة لما حدث فى «هيروشيما» و«نجازاكى». كما زرنا المستشفيات التى كانت تغص بضحايا «الكرم» الأمريكى والغربى، من المصابين والمشوهين من الذين تعرضوا لـ«الهدايا» الأمريكية، وجلهم من الأطفال والعجائز. وكم كان المنظر مفزعًا ونحن نرى الآلاف يئنون من فرط الألم، ويفتقدون، بسبب المنع والحصار، أبسط أنواع العلاجات والمُسَكِّنات، وشاهدنا بأم أعيننا، الأطفال العراقيين، الذين يولدون مشوهى الأعضاء، ومبتسرى الأطراف، بسبب الأسلحة المُحَرَّمة دوليًا التى سبَّبت تلوثًا فى الهواء والمياه والتربة، وخللًا فى الجينات، ما زال أثره قائمًا حتى الآن.
ورغم كل الشهادات النزيهة لبعض المفكرين والعلماء، ومنهم أمريكيون، كـ«نعوم تشومسكى»، والتى حاولت فضح أبعاد هذا الجريمة، بل وبالرغم من اعتراف العديد من المسئولين الأمريكيين والغربيين، السابقين، بالكذبة المنحطة التى أشاعوها عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، لتبرير حصار شعبه، وضربه، واحتلاله، وتمزيق وحدة أراضيه، لم يتحرك «الضمير العالمى»، إياه، خطوة واحدة لرفع الغبن وتعويض الضحايا، تمامًا كما يفعلون أمام ما حدث ويحدث فى فلسطين واليمن وغيرهما، بل أمعنوا فى نهب ثروات العراق، وأورثوه نظامًا قميئًا قائمًا على المحاصصة الطائفية والإثنية، حتى يصعب التئام مكوناته، ويسهل تفجير أوضاعه متى شاءوا.
وها هو بلطجى القرن الحادى والعشرين، يعترف دون أدنى شعور بالذنب، بأن العراق برىء مما ألصقته به دولته ونظامه ومؤسساته من تهم لا أساس لها، فمن يُعَوِّضُ شعب العراق عما عاناه من ويلات، ومن يُعيد للشهداء من الأطفال العراقيين الأبرياء فى ملجأ العامرية أرواحهم الطاهرة، التى صعدت إلى السماء وهى تلعن جلاديها؟!.