رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مونديال الكرة ومونديال الشِعر


كتبت هذا المقال يوم الجمعة ٢١ يونيو ٢٠١٩، الذى شهد انطلاق موسم الصيف، وبدء المونديال الإفريقى، وبدء قلبى فى الانفصال نهائيًا.
ثلاثة أشياء تجتمع اليوم، لتكمل الألوان فى لوحة اغترابى، وغربتى. ثلاثة أشياء لا أحبها، اتفقت على المجىء معًا، تهاجمنى فى بيتى، فى صومعة اعتكافى، فى ركن الكتابة، والاستماع إلى «فريد»، و«أسمهان»، بينما أستنشق رائحة البخور، ورائحة قصائد آتية من بعيد.
لا أحب يوم الجمعة، لا أحب الصيف، لا أحب الكرة، لكن هذه المؤامرة الثلاثية، لا تهتم بتعكير مزاج كاتبة، لا يعنيها هروب الأشعار، ولا تفهم معنى الاعتكاف. يوم الجمعة.. بدء الصيف.. بدء المونديال الإفريقى. إنه الثالوث المثالى، لكى أهفو إلى عالم آخر، ليست فيه أيام جمعة، ليس فيه صيف، ليس فيه مونديال كرة.
لكن أين أذهب؟. العالم كله على كوكب الأرض، فيه أيام جمعة، وفيه صيف، ومليان كرة. العالم كله على كوكب الأرض، غير مريح، غير إنسانى، غير هادئ، غير عادل. وأنا أحب الراحة والإنسانية والهدوء والعدل. ولا أحب منظر الدم، الذى أصبح من المعالم السياحية لهذا العالم.
أحاول أن أُكمل كتابة هذا المقال، متجاهلة صوت الميكرفون المرتفع، الآتى من مسجد أمام بيتى، أثناء صلاة الجمعة وخطبة الجمعة. والحقيقة، وحتى أكون منصفة، هو أقل ارتفاعًا من الأسبوع الماضى. لكنه ما زال يدخل بيتى، رغم أن النوافذ كلها مغلقة وجدران العمارة سميكة جدًا.
وَعدنى المشرف على الصفحة الأدبية بإحدى المجلات، بأن قصيدتى سوف تُنشر اليوم، الجمعة ٢١ يونيو ٢٠١٩. تصفحت المجلة ووجدت أن مقالًا عن المونديال الإفريقى قد نُشر بدلًا من القصيدة. ولأننى معتادة على مثل هذه الوعود منذ بدأت رحلة الكتابة، فلم أنزعج. خاصة أن الأشياء الثلاثة التى لا أحبها مجتمعة اليوم.. الجمعة، وبدء الصيف، وبدء المونديال الإفريقى.
وحتى أكون نزيهة، لا بد أن أعترف بأن المونديال الإفريقى، برىء من إزاحة قصيدتى. بأن الأدب طوال العام فى أغلب الجرائد والمجلات مظلوم ومهدور الحق، ولا يحظى بأى اهتمام حقيقى. هذا على الرغم، من الترديد المستمر، أن الآداب والفنون والإبداع من أهم مقومات الشعوب، وهو القوى الناعمة التى تدعم وجودنا الحضارى. والدليل على ذلك أن الصفحة اليتيمة الوحيدة المخصصة للأدب، فورًا ودون تردد، يتم إلغاؤها لحساب إعلان عن منتجع فى الساحل الشمالى، أو إعلان عن أحدث ماركات السيارات، أو إعلان عن الجديد فى جراحات التجميل، أو بسبب حوار مع ممثلة فاشلة، أو سيرة ذاتية لمطرب فاسد الصوت.
لا أدرى إلى متى، لا نستحى من الكذب؟. نحن فى مرحلة مهمة وحرجة وفاصلة من تاريخ الوطن. بعد أيام سوف نحتفل بيوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣ الذى استعدنا فيه مصر من براثن سماسرة الأوطان وتجار الأديان والمستثمرين فى استعباد النساء. منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٩ ومصر تجهض محاولات الإرهاب الدموى وتباشر النهضة والبناء والنجاحات وتقاوم الشائعات الدنيئة التى يصنعها ويروجها أعضاء التحالف المحلى والعالمى المكون من رأسمال شرس، وإخوانية وهابية سلفية متنمرة، وتجار سلاح يستثمرون فى الدم. مرحلة خطيرة تستدعى الصدق مع أنفسنا أولًا.
جزء أساسى من الكذب الذى يجب أن نستحى منه وأن نتوقف عنه هو أكذوبة أننا نضع الأدب والإبداع والفن على قائمة الأولويات الإعلامية، وهذا غير صحيح. وإذا كنا نشهد على أرض مصر اليوم المونديال الإفريقى، فلماذا لا نشهد بالدرجة نفسها من الاهتمام، مونديالًا أدبيًا إفريقيًا أو غير إفريقى؟. لا يوجد فى مصر، ولا مونديال واحد للشِعر. لماذا؟!. رغم أننا متخمون بالمؤسسات الثقافية التى يجب أن تدبر الميزانية اللازمة لعقد هذا المونديال الإبداعى. ورغم أننا ما زلنا نردد المقولة السلفية:
«الشِعر هو ديوان العرب»، وما زالت دور النشر، ترفض إنتاج الشاعرات والشعراء، قائلة إن الشِعر لا جمهور له عكس الكتب الدينية والسياسية وفضائح النجوم.
إن أكبر حلم للطفل الذكر الآن، ليس أن يصبح مثل مهندس كفء يبنى للناس بيوتًا لا تقع، أو طبيب نزيه يعالج المرض وليس العرض، أو أستاذ يربى الأجيال على حرية نقد الثوابت، أو تاجر يبيع السلع غير المغشوشة بثمن متواضع، أو مخرج سينمائى يصنع من الفيلم وثيقة للجمال والتمرد والحرية، أو حرفى فى السِباكة أو النجارة أو الميكانيكا، يُسهّل للناس حياتهم، أو مدرب بارع لتعليم الرقص والرشاقة والتغذية السليمة، أو كاتب صحفى ينير الطريق إلى الحقيقة، أو شاعر يسلب القلوب بالقصائد. لكنه يحلم بأن يصبح «لعيب كورة»، محترفًا، بالملايين من الدولارات، تتسابق علي شرائه الأندية الرياضية العالمية الكبرى. ومعه كل الحق. استاد مباراة كرة واحدة عالمية، يحتشد بالملايين من الجمهور. وفى ندوة الشِعر لا يوجد أحد.. مَنْ المسئول عن هذا؟!. ولمصلحة مَنْ؟!.
من بستان قصائدى
هناك «جين» ضمن جيناتى الوراثية.. اسمه «أنت»
وهذا يفسر الأشياء.. من الألف إلى الياء