رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والسودان.. المصير والتحولات «2-2»


أدرك محمد على مبكرًا أهمية نهر النيل، وضرورات التوسع جنوبًا، ربما بحثًا عن الذهب، وربما لتجنيد السودانيين فى الجيش، وربما خوفًا من هرب أعدائه إلى الجنوب وتشكيل قوة معارضة له، لكن الأكيد أنه أدرك، مثله مثل كل حكام مصر منذ القدم، أهمية تأمين منابع النيل، ولذلك استكمل حفيده «إسماعيل» المهمة، حيث وصلت سيادة مصر إلى خط الاستواء.
هكذا بدأ يظهر الكيان السياسى الجديد الذى نعرفه الآن باسم «السودان»، ومع استقرار ما يُطلِق عليه المؤرخون القوميون السودانيون «الحكم المصرى التركى»، يبدأ بزوغ «القومية السودانية». ولا ننفى حدوث بعض السلبيات من الجانب المصرى فى إدارة السودان، ولا ننفى أيضًا حدوث بعض التصرفات غير المسئولة من «العنجهية» التى فسرها بعض الأشقاء السودانيين على أنها نوع من التعالى يصل إلى العنصرية. لكن الأكيد أن نهر النيل قد أصبح شريان الحياة لهذه الدولة الموحدة «مصر والسودان»، وأن الشعور السائد تمثل فى شعار وحدة وادى النيل، والذى عبّر عنه الضمير الشعبى فى عبارة بليغة «مصر والسودان حتة واحدة» أى «قطعة واحدة».
لكن الاستعمار لم يتقبل ظهور دولة إقليمية كبرى فى المنطقة تمتد من شاطئ البحر المتوسط إلى ما يقارب خط الاستواء، وسيظهر ذلك جليًا خاصة مع احتلال بريطانيا مصر فى عام 1882. وستستغل بريطانيا فرصة الصدام بين الإدارة المصرية والحركة المهدية فى السودان فى بسط نفوذها هناك. ومنذ ذلك الوقت أصبح حلم الحركة الوطنية فى مصر والسودان «وحدة وادى النيل»، وحلم بريطانيا دعم انفصال السودان عن مصر.
ويتبارى البعض فى إلصاق مسئولية انفصال السودان عن مصر إلى ثورة 23 يوليو، بل يصل البعض إلى اتهام «عبدالناصر» بأنه وافق على ما رفضه مَن قبله، وأنه فرّط فى السودان. وهو فى الحقيقة اتهام باطل، فالأمر، وكما رأينا، أكثر تعقيدًا من ذلك، وأشد خطورة من أن يستخدم فى الملاسنات السياسية والحزبية، والأمر المؤكد أن وحدة مصر والسودان كانت تشكل خطرًا على قوى إقليمية وإفريقية وعالمية.
على أى حال لم تكن الصلات السياسية بين مصر والسودان هى الرابطة المهمة أو الوحيدة بين البلدين، وربما أزعم بأن الصلات الثقافية والدينية والبشرية ربما هى الأبقى والأنقى. لا يعلم البعض أن منطقة النوبة تتوزع سياسيًا بين مصر والسودان، فهناك النوبة المصرية والنوبة السودانية، ولكن على المستوى الإنسانى كانت النوبة دائمًا عامل وصل بين شمال وجنوب وادى النيل، فالعائلات واحدة، وصلة الدم تدعم وحدة وادى النيل. وفى الأزهر الشريف كان «رواق سنار» هو رواق الطلاب من جنوب الوادى، حيث امتد تأثير الأزهر إلى هناك، كما شاهدت بنفسى أثر الكنيسة القبطية فى السودان، ووجود الكنائس والأندية القبطية حتى الآن فى السودان. وهناك عائلات سودانية من أصول قبطية تلعب دورًا مهمًا فى الاقتصاد والإدارة حتى الآن، الكثير منهم ترجع أصولهم إلى منطقة نقادة فى صعيد مصر.
هل نسينا الدورين الثقافى والتعليمى المهمين اللذين لعبتهما البعثة التعليمية المصرية فى السودان؟، وأيضًا دور جامعة القاهرة فرع الخرطوم، التى تشرفت بالتدريس بها، فى الحياة السودانية؟ وعلى الجانب الآخر كان أول كتاب قرأته بالإنجليزية عن الأصول الثقافية للقومية المصرية للمفكر السودانى الشهير جمال محمد أحمد، وعندما قرأت أعمال الطيب صالح أحسست وكأنه يتحدث عن مصر.
السؤال الأخير الذى أطرحه على نفسى كمؤرخ: لو نجحت فكرة «وحدة وادى النيل» وبقيت مصر والسودان دولة واحدة، هل كان ذلك سيَحُول دون انفصال جنوب السودان؟ هل خبرة «الدولة المركزية» فى مصر كانت ستنعكس إيجابًا على الحالة السودانية.. وربما يتغير تاريخ المنطقة؟!.