رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المرحلة القبطية والعمادة بالدم


يتميز العصر القبطى بظهور الشعب المصرى على صفحة التاريخ، بعد أن انقضى عصر الحكام الوطنيين، كما أنه لم ينته فى القرن السابع الميلادى بل امتد فى العديد من النواحى من عصرنا الحاضر، ولعل كتاب «المرحلة القبطية فى التاريخ المصرى»، الذى صدر عن مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان بالقاهرة عام 1998 للكاتب «محمود مدحت»، هو الإصدار الأكثر تفردًا بوجود الرؤية الشاملة، ونهج المدرسة المادية فى التفسير التاريخى من وجهة نظر بعض المؤرخين.
يتضح فى الكتاب، كما جاء على لسان مجموعة من المفكرين فى ندوة حول معطياته فى تلك الفترة، الميل الواضح للكاتب للذهاب معظم الوقت إلى تحليل ودراسة أحوال الناس، والتفسير لوجود تبعات وآثار أى متغيرات فى الأحوال السياسية والاقتصادية فى مجتمعاتهم تطرأ عليهم، والأسباب التى أدت إليها ومدى علاقة القوى الاجتماعية وتعاظمها فى لحظة معينة، فمن المؤشرات التاريخية التى دعت المؤلف إلى دراسة المرحلة القبطية حديث الدوائر الغربية عن حالة الأقباط فى مصر، ومن الأسباب الأخرى التى دعت المؤلف إلى دراسة هذه المرحلة من التاريخ المصرى، هى أن «مصر القبطية» لم تكن فترة منقطعة عن تاريخ مصر، فلم تكن رومانية ولا بيزنطية، والمؤلف هنا يريد أن يؤكد على أن ننسب عصور تاريخنا القومى المتوالية إلى الشعب لا إلى الحاكم، فعوضًا عن أن نقول العصر الرومانى البيزنطى، ينبغى أن نقول العصر القبطى وإن إغفال هذه الفترة التاريخية المهمة والحيوية فى تاريخ مصر لا يزال سائدًا إلى الآن فى مجالى التعليم والإعلام، مع أن تاريخ هذه المرحلة من متطلبات إدراك «المواطنة المصرية» وإحياء الذاكرة الوطنية، كما أن لهذه المرحلة نقلة نوعية، حيث تمسك المصريون بثقافتهم وقوميتهم، ثم تعرض المؤلف للأسباب التى دفعت الرومان لاضطهاد المسيحيين، وقد أرجعها إلى ثلاثة أسباب:
أولًا: إن الرومان اعتبروا الوجود المسيحى ثورة اجتماعية خطيرة، فيما يتمثل من رفض المصريين عبادة الإمبراطور.
ثانيًا: شجب المسيحيين سلوك الرومان وأخلاقهم ورفضهم عمل المسيحيين فى المسارح أو الملاعب الرومانية، وكان للكنيسة دور هام فى ذلك، إذ وفرت لأبنائها أعمالًا بديلة.
ثالثًا: رفض المسيحيين مبدأ استعباد الشعوب الضعيفة، ما يمثل إهدارًا جسيمًا للكرامة الإنسانية، وكنتيجة لهذا التباين الواضح فى المبادئ والسلوكيات بين الثقافة والحياة الرومانية والثقافة والحياة المسيحية.
جاء اضطهاد المسيحيين وحرمانهم من المواطنة فى تلك الفترة، وإنزال ألوان العذاب والظلم بهم، لكن على الرغم من هذه الظروف القاسية حمل الأقباط لواء الكرازة المسيحية فى بلادهم وخارجها، فكان أن تحقق البروز العلنى للكنيسة القبطية، التى لم تلبث أن تحولت إلى مؤسسة وطنية ودينية، فعن مصر نقلوا قواعد النسك المسيحى، حتى بلغ من الشخصية القبطية وسيطرتها أن دير مونت كاسينو فى إيطاليا يكاد يكون صورة متفقة مع دير القديس باخوم فى صعيد مصر، وجماعات الفرنسيسكان والدومينيكان تدين بنشأتها للقديس باخوم، وإلى مصر ينسب نظام الحياة الديرية فى الرهبنة المسيحية، وعلى يد الأقباط وصل التبشير بالمسيحية إلى الجزر البريطانية كما أنهم نشروا المسيحية فى جنوب فرنسا وبلجيكا وسويسرا، كانت مصر لا روما ولا أثينا مصدر التشريع الكنسى للعالم المسيحى، فى مصر قام القديسون أثناسيوس وأوسطينوس وسيليوس بنقل قوانينها إلى إيطاليا واليونان وأيرلندا، وفى القرنين الرابع والخامس قدمت مصر أقدم ترجمة قبطية للكتاب المقدس، وكانت الموسيقى القبطية الكنسية أقدم مدرسة موسيقية كنسية معروفة فى العالم كله، ويطول الحديث عن دور مصر الرائع فى العالم المسيحى، ثم يختتم الكاتب كتابه بقوله: لا شك فى أن الوعى الوطنى لدى المصريين قد اتصف بالوعى الديمقراطى وإعمال حق الاختلاف والاتفاق وقراءة استجلاء تاريخهم الحقيقى سيكون طريقهم إلى مستقبل مزدهر، تعلو فيه رايات العدل والتقدم، ويكون فيه الدين لله والوطن للجميع، لقد نجح المؤلف بصدق بتقديم إسهامات موفقة فى هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر، والتى جاءت فى وقتها المناسب.
يقول الكاتب «محمود مدحت»: إن الفصل الرابع من الكتاب كان بعنوان «المصريون يعمدون بالدم» وقد حاولت فيه أن أوضح أسباب اضطهاد الرومان للمسيحيين، وحاولت أن أثبت- ولعلى أكون قد نجحت- أن مصر قد خرجت من حيث كونها ولاية رومانية إلى كونها قد استطاعت بشعبها أن تمزج وبقوة بين الوطنية المصرية وثقافتها السليبة، وبين اعتناقها الدين الجديد المسيحية، وحاولت أيضًا أن أكشف عن كيفية انتشار المسيحية فى مصر وأسبابها، وتلك الجسور التى عبرها جاءت الديانة الجديدة وكذلك أثر حلقة فقدان اليقين الروحى ودور الديانة المسيحية كمعتقد روحى فى ترسيخ هذا اليقين، وحاولت أيضًا من خلال هذا الفصل توضيح كيف أن الإسكندرية أصبحت المركز القوى لحركة المسيحية، بعد أن ترسخت كنيستها نتيجة جهاد المصريين، وكيف أن نظام الأوائل قد ساعد على تبلور قومى ووطنى للمصريين، كذلك حاولت أن أبين أسباب اضطهاد دقلديانوس، وتناولت فى هذا الفصل أيضًا الرهبنة والديرية وعلاقتها بالجانبين الثقافى والروحى فى ثقافة مصر القديمة، كذلك اللغة القبطية وكيف كان اختراع صياغة الكتابة القبطية وكيف كان قطعًا مع الثقافة الهللينية..».
أتوقف عند ذلك الإصدار رغم صدوره منذ أكثر من ربع قرن من الزمان، هو وغيره من الإصدارات التى تناولت تلك المرحلة التاريخية، وما بعدها حتى كان دخول العرب وما تلاه من أحداث، لأنها قليلة، وقد أختلف وغيرى حول بعض ما جاء فى الكتاب، ولكننى أطالب بالمزيد من الإصدارات، تعويضًا عن حدوث حالة إهمال تاريخى لرصد ما حدث فى زمن مصر القبطية، وماهية الحوار الإيجابى والتشابكين العلمى والموضوعى حول معطيات وتجليات أحداث تلك الفترة، التى لم تشغل بال من قاموا بتأليف مناهج التاريخ لطلابنا عبر عقود كثيرة للأسف، وحتى على مستوى الذاكرة التاريخية للأمة فى المكتبة المصرية والعربية، هناك حالة ظمأ معلوماتى، مما شكل حالة انقطاع معرفى هائلة للأسف.