رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جنازة حارة أخرى لـ«دِبّانة»!


يقولون «الجنازة حارة والميت كلب» لو كانوا يكرهون الميت، أو حين لا تتناسب ردود الأفعال، عمومًا، مع حجم الحدث. ولالتصاق المثل بالأذهان، يضعون أحيانًا مكان الـ«كلب» اسم شخص أو شىء، تحقيرًا للأول وتقليلًا من شأن الثانى.
مؤسف جدًا أن يستمر تداول ذلك المثل، الذى ينم عن سوء تقدير للكلاب، والذى لن تجد له شبيهًا لدى غالبية شعوب دول العالم. وبالتالى لن يصلهم معنى المثل، وسيؤدى شرحه أو توضيحه، غالبًا، إلى احتقارهم لقائله، الأمر الذى يجعل المترجمين يستعينون بأمثلة أخرى تقود إلى المعنى نفسه. ولا نعرف لماذا توقف قائل ذلك المثل ومَنْ ساروا خلفه، أو خابوا خيبته، عند جنازة الكلب، ولم يتوقفوا عند جنازة ضخمة ومهيبة أقيمت من أجل ذبابة، أى «دبّانة»!.
كل الكلاب ستدخل الجنة، أو All dogs go to heaven، كما قالت رسومات «جرافيتى» ملأت حوائط شوارع اليونان، فى أكتوبر 2014، بعد وفاة «لوكانيكوس»، الذى كان يتقدم صفوف المتظاهرين، منذ 2008 حتى 2012، ضد سياسات التقشف التى فرضها صندوق النقد الدولى، والبنك المركزى الأوروبى. واختارته مجلة «تايم» الأمريكية ضمن شخصيات عام 2011. وعليه، كان طبيعيًا أن تقام جنازة حارة لـ«الكلب الثورى»، أو «الأسطورة»، أو «كلب الانتفاضة»، كما وصفه ديفيد روفيك فى أغنية شهيرة.
جنازة الكلب، إذن، قد تكون حارة. وعادى جدًا أن يكون حزن صاحبه عليه أكثر من حزنه على أقرب الأقربين له من البشر. وقبل الجنازة المهيبة التى أقامتها شرطة مدينة «أوكلاهوما» الأمريكية لكلب لقى مصرعه خلال مطاردته عصابة إجرامية، كتب عباس محمود العقاد، أفضل قصائده، شكلًا وموضوعًا، معنىً وموسيقى وشاعرية، فى رثاء كلبه «بيجو»، التى رسم فيها حزنه عليه وحكى ذكرياته معه على امتداد خمسين بيتًا.
تقديرًا للكلب، أيضًا، سبق أن امتنعنا عن وصف «العبد» وزير الخارجية القطرى وأسياده بأنهم «كلاب» أو «ولاد ستين كلب»، وأوضحنا فى مقال «الكلاب.. وعبيد إمارة الإرهاب» أننا نهين الكلاب، المعروفة بوفائها وإخلاصها، حين نشبّه بها حقراء أو ننسب لها نسلًا بهذه الوضاعة. وأحلناك إلى كتاب «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب» للشيخ أبوبكر محمد بن خلف بن المرزبان، الذى يعدد فيه مزايا وفضائل الكلاب فى مقابل مساوئ أمثال العائلة الضالة التى تحكم قطر بالوكالة وعبيدها. كما سبق أن اعترضنا على وصف الرئيس الفلسطينى للسفير الأمريكى لدى تل أبيب بأنه «ابن كلب»، ورأينا أن ذلك إهانة للكلب وأبنائه.
الغريب، هو أن واضعى الأمثال لم يستوقفهم أو لم يصل إلى علمهم أن الشاعر الرومانى الشهير أپوپليوس ڤرجيليوس مارو، المعروف باسم «فرجيل»، أقام جنازة ضخمة ومهيبة من أجل ذبابة. مع أن تلك الجنازة تكلفت أموالًا طائلة وألقى خلالها الشاعر العظيم عدة قصائد عدّد فيها مآثر ذبابته، فى وجود فرقة موسيقية كاملة تعزف الألحان الجنائزية للتخفيف على المواسين والمعزين الذين كان بينهم وزراء وأعضاء بمجلس الشيوخ وحكام ولايات وشعراء ومطربون وشخصيات رومانية عظيمة مثل ماسيناس، أستاذ فرجيل، الذى ألقى هو الآخر مرثية طويلة مثيرة للشجن. وانتهت المراسم الجنائزية بدفن «الذبابة» فى «ضريح» يتوسط حديقة قصره الفخم أعلى هضبة «إسكولبين» فى روما.
هل كان «فرجيل» عبيطًا؟!
الحقيقة هى أنه كان بـ«يستعبط»، وسبب استعباطه هو أن السلطات فى ذلك الوقت كانت قد قررت مصادرة أملاك الشعب من أجل المجهود الحربى. وأصدرت قانونًا يقضى بمصادرة أى قصر لا توجد به مقبرة أو ضريح. ولأن القانون لم يحدد ما إذا كانت المقبرة أو الضريح لإنسان أو حيوان أو حشرة، لجأ «فرجيل» إلى تلك الحيلة ليفلت بقصره من المصادرة، زاعمًا بأن هذه الذبابة كانت حبه الوحيد، وأنه تعهدها بالرعاية حتى كبرت!.
لو كنت زبونًا دائمًا، أو قارئًا منتظمًا لهذا العمود، ربما تتذكر أنك قرأت بعض ما سبق، منذ سنتين تقريبًا، فى مقال عنوانه «الجنازة حارة.. والميت دبانة».
ولن نختلف لو ربطت إعادة نشره، مزيدًا ومنقحًا، بتلك الجنازة الحارة المنصوبة، الآن، على شبكات التواصل الاجتماعى، وفى وسائل إعلام تحت مستوى الشبهات، لقيادى بتنظيم إرهابى، تسبب فى قتل آلاف الأبرياء، وقال حكم قضائى، نهائى وبات، إنه خان وطنه وتخابر لصالح دولة معادية، وعوقب عن تلك الجريمة، وغيرها، بالسجن لمدة 45 سنة. وكان ينتظر حكمًا بالإعدام عن جريمة تخابر أخرى.
الخلاصة، هى أن الجنازة الحارة التى أقامها «فرجيل» لذبابته، تشبه بدرجة كبيرة، شكلًا وسببًا وموضوعًا، تلك التى أقامها من اعتادوا المتاجرة، غرضًا أو مرضًا، بـ«حرمة الميت»، بينما أنيابهم الزرقاء العفنة لا تتوقف عن نهش لحوم الموتى والأحياء!.