رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيري يكتب: المحليات وعمايلها


أجمل أيامى تلك التى أقضيها مع أسرتى وأهل قريتى فى الصعيد.. لا عيد إلا بهم.. ومعهم.. وهذه المرة كنت كعادتى شغوفًا بمعرفة أحوالهم.. فمنهم أعرف المستقبل.. من حكاياتهم البسيطة أعرف حال بلدنا.. أطمئن أحيانًا.. وأغضب أحيانًا.. وأعرف الخطوة القادمة فى كل الأحوال.
فى هذا العيد.. شعرت بأن الناس رغم كل شىء لديهم أمل.. لديهم رغبة حقيقية فى مساعدة بلدهم.. ليخرج إلى النور.. القادمون من الخليج يشعرون بحسرة على ما آلت إليه الأحوال هناك.. ينتظرون أن يستقر الإقليم حتى تعود الدنيا إلى ما كانت عليه.. العمال والصنايعية الذين جاءوا من هناك بشكل نهائى بعد سنوات طويلة يتحدثون بحسرة عن مشروعات كبرى توقفت بسبب الحرب فى اليمن.. وينتظرون أن تتحسن الأحوال فى ليبيا ليذهبوا إلى هناك.. أو تتحسن الأحوال وتتوقف المشاحنات فى الخليج فيعودون من جديد.. أهل محافظتى سوهاج.. أهل ترحال.. لا يعرفون الراحة.. منذ سنوات طويلة وهى محافظة طاردة لأبنائها البنائين.. ورغم أنهم يعشقون ترابها.. لا يفرطون فى شبر مما يملكون فيها.. إلا أن أكل العيش يجبرهم دائمًا على تركها على أمل العودة إليها. هؤلاء الصنايعية المهرة.. بعضهم قرر الذهاب إلى العاصمة الإدارية ليعمل فيها.. حدث هذا مع العشرات.. ورغم الفارق فى «الرزق» فإنهم فرحون بأنهم فى بلادهم.. وبدلًا من غيابهم بالسنوات عن بيوتهم ونسائهم وأولادهم يعودون كل ثلاثة أشهر أو أربعة.. يجلسون مع أسرهم عددًا قليلًا من الأيام ثم يعودون إلى العاصمة من جديد.. بعضهم ظل يعمل حتى ليلة العيد وحملتهم القطارات العائدة فجرًا ليلتحقوا بالصلاة وبفرحة أولادهم بعدها. دواوير العائلات المفتوحة هذه المرة من بعد صلاة العيد وحتى عصر اليوم الأول حملت الكثير من الحكايات.. أهمها تلك النكات والضحكات والقفشات حول أسعار الليمون الذى بلغ المائة جنيه أول أيام العيد.. حيث يتجمع أهلى حول «وجبة الملوحة الشهيرة».. وبغير الليمون لا يمكن التعامل معها.. ووسط ضحكات الأهل التى حسمت الأمر بأنه لا يمكن أن نردد بعد اليوم أن «العدد فى الليمون».. وجدنا من يخبرنا بأن بشائر الطرح الجديد ستهبط بهذه الأسعار خلال أيام.. وأخبرنى أحدهم ممن استصلحوا أرضًا وزرعوها غرب المنيا بأن آلاف الأفدنة أتت ثمارها وهى فى الطريق للأسواق.. وأن إنتاج الفدان فى هذه الأرض الصحراوية يساوى ثلاثة أضعاف إنتاج الأرض فى الوادى القديم.. وأن أصحاب المزارع الذين يعرفون طريق التصدير سيربحون حتمًا.. وأتم حكايته بأن من يملك أموالًا ولا يذهب لاستثمارها فى تلك الصحراء «ربنا هيحاسبه».
هذه المعانى الفرحة فى ألسنة أهلى ووجوه أهل قريتى ذهبت تمامًا ونحن نستمع إلى حديث أحدهم عن أحوال المحليات.. جميعهم استبشروا خيرًا بحديث الرئيس الأخير الذى ألمح فيه إلى قرب إجراء انتخابات المحليات.. شكاوى الأهل من موظفى المحليات القدامى مريرة.. بعضها يدخل فى مجال أفلام الرعب والغرائبيات وأساطير الأعاجم.. حكى لى أحدهم بالوثائق والمستندات قصة أحد أقاربه من أبنائنا الذين هاجروا مبكرًا إلى الخليج.. أعطاه الله هناك من وسع.. مئات الملايين.. وكانت الحكومة تنادى أبناء مصر فى الخارج بالعودة للاستثمار فى محافظاتهم الفقيرة.. وكانت دعوات وزارة الاستثمار وإعلاناتها تُغرق الشاشات.. وصدّق الرجل هذه الإعلانات.. وصفّى أعماله فى الكويت وجاء إلى سوهاج.. بلده الفقير ليستثمر فيه.. فى ذلك الوقت كانت الحكومة قد باعت عبر برنامج الخصخصة بعض أصولها وممتلكاتها من الشركات.. وفى سوهاج طرحت ثلاثًا من هذه الشركات الكبرى عبر مزادات علنية.. وتقدم الرجل لشراء إحداها من شركة أجنبية اشترت الأرض من الحكومة فى المزادات ونقلت أسهمها كاملة إلى ملكيتها.. واستمرت فى حوزتها لسنوات قبل أن تقرر هذه الشركة الأجنبية بيع بعض أفرع شركاتها فى عدد من محافظات مصر ومنها سوهاج.. فقرر الرجل دخول المزاد.. وحصل على الأرض.. كل ذلك حدث بعلم الحكومة وفى وجودها ووجود رجال المحافظة ولم يعترض أحد على البيع الأول عام ١٩٩٤.. ولا على المزاد الثانى منذ ثلاث سنوات.
وبعد أن تسلم الرجل أرضه ومصنعه ذهب إلى المحليات ليبدأ فى طلب تراخيص إلغاء رخص المصنع.. وفوجئ بمن يطلب منه وبشكل صريح وواضح رشوة بمئات الملايين قال إنها للرجل الكبير.. وما أدراك بالكبير فى تلك المحافظة الفقيرة؟!.
طبعًا هذا الكلام لا دليل عليه.. رغم أن ذلك الموظف ضُبط بعدها فى واقعة رشوة.. وأبعدوه عن موقعه.. لكنه، وقبل أن يرحل، زرع للرجل لغمًا ذهب به إلى الجحيم.
لجأ الرجل إلى لجنة فض المنازعات فحكمت له بصحة ما يملك من مستندات.. وصحة موقفه.. وأعطته الحق فى إلغاء رخصة المصنع فامتثل الحى للقرار.. وأعطاه أيضًا رخصة تغيير النشاط.. إلا أن الموظف الذى كان قد رحل.. وبعناد غريب «عرض على المحافظ» عرضًا غير أمين أخفى فيه تسلسل ملكية الأرض.. وطلب فتوى من لجنة الفتوى فى المحليات.. التى لم تعرض عليها أى مستندات ملكية تقول إن الدولة باعت تلك الأرض التى نزعت ملكيتها من ثلاثين سنة للمنفعة العامة.. وأنها ظلت فى حوزة مالك جديد هو الشركة الأجنبية قبل أن تبيعها للمستثمر السوهاجى.. فكان أن وردت فتوى للجنة بإيقاف التعامل على الأرض.
ثلاث سنوات من العذاب يعيشها الرجل الذى جاء بأمواله وأموال شركاته ليستثمر المليارات فى سوهاج.. ثلاث سنوات فى الجحيم.. ومليارات معطلة بسبب موظف مُغرض.. آلاف فرص العمل كانت ستوفرها تلك الاستثمارات ضاعت ولا تزال.. فمن يتدخل لإنقاذ هذه الأموال وإنقاذ الرجل الذى سلّمنى ملفات القصة كاملة وهى فى حوزتى لمن يريدها ويريد إصلاح أحوال الناس الذين ينتظرون الفرح مع كل طلة عيد؟.