رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بوشكين وناتاليا ولغة الحب


فى السادس من يونيو، يتم الاحتفال كل عام بيوم اللغة الروسية، وقد بدأ ذلك الاحتفال سنة 2011 مرتبطًا بيوم ميلاد بوشكين شاعر روسيا الأكبر، الذى يقدسه الشعب الروسى ويطوق نصبه التذكارى فى ذكرى ميلاده ببحر من الورود. ويندر أن تجد فى روسيا ولو طفلًا لا يحفظ عن ظهر قلب ولو قصيدة من بوشكين.
رغم أن بوشكين لم يعش أكثر من ثمانية وثلاثين عامًا فقط، إلا أنه استطاع خلال ذلك العمر القصير أن يفتح للأدب الروسى طريق المسرح والرواية والقصة القصيرة والشعر، بل وخلق خلال ذلك، اللغة الروسية بمعناها الذى نعرفه الآن. ويعود بوشكين بأصوله إلى جد حبشى أو مغربى ورث عنه الشاعر شفتيه الغليظتين وشعره الأجعد الإفريقى. وقد عشق الشعب الروسى شاعره ليس فقط بفضل قصائده، ولكن أيضًا لأنه كان متعاطفًا مع «حركة الديسمبريين» الروسية التى تشكلت من نبلاء روس بهدف تحرير الفلاحين، وانتهت بمحاولة انقلاب على القيصر نيقولاى الأول، لكن الحركة فشلت وتم الزجّ بالثوار فى السجون وإعدام بعضهم، أما بوشكين فقد تم نفيه إلى الجنوب قبل الانقلاب بسبب آرائه وقصائده، ومن أشهرها «إلى تشادييف» التى جاء فيها: «فلنكرس للوطن يا صديقى خلجات نفوسنا الرائعة.. وثق يا رفيقى فلسوف يشرق نجم السعادة الساحرة.. وستنهض روسيا من سباتها.. ولى حطام الاستبداد.. سوف يسطرون أسماءنا». إلا أن هناك قصة أخرى رسخت مكانة بوشكين فى وجدان الشعب الروسى، هى علاقته بناتاليا جونتشاروفا الشابة الساحرة التى أدارت رءوس الأوساط الراقية أينما حلت، أحبها بوشكين وتزوجها وكانت دماؤه الإفريقية الحارة تغلى إذا غازلها أحد، لذلك استغل القيصر غيرة بوشكين على زوجته، ودفع ضابطًا فرنسيًا ليغازلها فدعاه بوشكين للمبارزة بالمسدسات، لكن الشاعر الذى لم يخطئ فى تصويب قصائده على الطغيان، لم يصب الهدف فى تلك المبارزة التى تمت فى غابة بحضور شهود. وفى 27 يناير عام 1837 أصابته رصاصة الفرنسى، وظل يومين يعانى من سكرات الموت حتى توفى فى 29 يناير. وفجعت روسيا كلها بالغدر الذى انطوت عليه مبارزة شاعر لا يحسن إلا الشعور بهموم شعبه، وفجعت بالنهاية الأليمة لقصة العشق الحارة بين بوشكين وناتاليا، وصارت القصة موضوعًا لأغنيات شعبية كثيرة تتردد فى روسيا عن الشاعر الثائر العاشق الذى قتل غدرًا. وقد طمر الزمن المتدفق اسم القاتل الفرنسى المأجور جورج دانتس، وطمر أيضًا اسم القيصر، ولم يبق سوى اسم بوشكين. وقد نعى ليرمنتوف بوشكين بقصيدة «فى موت شاعر» وفيها اتهم القيصر والبلاط بقتل بوشكين، وجاء فيها: «انطفأ قنديل العبقرية.. وذوى إكليل الغار على جبهته.. فاشهدوا.. لقد انحنى رأس شامخ.. وسقط الشاعر شهيد الشرف». وفتح بوشكين برحيله الدامى، باب الموت فى المعركة أمام الشعراء الروس، وهكذا سرعان ما قتل ليرمنتوف أيضًا فى مبارزة فى 1841، ثم يسينين فى حجرة بفندق، ثم مايكوفسكى شاعر الثورة، فظل اسم بوشكين لدى الشعب الروسى مرتبطًا بمعنى الموت فى سبيل الوطن والحرية. وعاشت أبيات بوشكين تتردد إلى يومنا «أنا لن أفنى كلى.. ستظل روحى فى الشعر المكنون.. وسأظل شهيرًا ما بقى ولو شاعر.. يتغنى تحت القمر فى هذا الكون، وسيذكرنى الشعب طويلًا بالعرفان.. فقد أيقظت قيثارتى أنبل المشاعر.. ولقد غنيت فى عصرى للحرية.. وناديت برحمة البؤساء». وفى قصيدته الشهيرة «نصب تذكارى» يقول: «لقد أقمت لنفسى صرحًا.. لن تنمو الأعشاب على الطريق نحوه»، أى أن الناس لن يكفوا عن زيارة تمثاله. واليوم العالمى للاحتفال باللغة الروسية التى يتكلمها ثلاثمائة مليون، هو بدرجة كبيرة يوم عالمى للاحتفال بالشاعر، الذى أحب بحرارة حتى الموت، وعشق وطنه حتى الحرية، وبدل وجه الأدب الروسى خلال سنوات عمره القصيرة.