رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لن يبقى منا سوى الأغنيات


عندما أتذكر الكثير من الأماكن والأحداث والسنوات والبشر أجدها مقرونة بنغمة ما، غنوة كأنها العيون التى يطل بها الزمان والمكان، فيخيل إلى أنه لن يبقى منا سوى الأغنيات، «أحن إليك»، و«دع سمائى فسمائى محرقة»، ومن أغانى الطفولة «وحوى يا وحوى» التى كنا نرددها ونحن صغار نمضى فى الشارع المعتم بفوانيس رمضان، نطرق أبواب البيوت بضجة وزعيق، يفتحون لنا، فنبادرهم على الفور بصيحة كالرعد: «رمضان كريم» فيضعون فى كفوفنا الممتدة قطع الحلوى أو قروشًا قليلة فنهتف من جديد: «وحوى يا وحوى.. إياحة»، ونواصل تقدمنا لغزو البيوت المتلاصقة القليلة فى شارعنا.

كنا نفضل «وحوى» على أغنية عبدالمطلب الجميلة «رمضان جانا» لأن الأولى تشتمل على مقطع جماعى يتكرر ويسمح لنا بالزيطة والبهجة. وقد كان ظهور تلك الأغنية لأول مرة فى عشرينيات القرن الماضى، أى أنه قد انقضى عليها الآن نحو مائة عام كاملة، وما زالت تتردد بأطفال آخرين يجددون الفرح: «رحت يا شعبان، جيت يا رمضان إياحة، هل هلالك والبدر أهو بان، شهر مبارك وبقى له زمان، وحوى يا وحوى».
بقيت الأغنية بلحنها الشعبى الجميل مائة عام وسوف تبقى، بينما اختفى المؤلف والمطرب والملحن كما تختفى الأنفاس فى الهواء، ولم يبق منهم سوى غنوة، كتب كلماتها الشاعر حسين حلمى المانسترلى الذى لم يصلنا من شعره إلا قصيدة واحدة بالفصحى، بينما جمعت الأغانى والمونولوجات الشعبية التى ألفها فى كتاب، وهو من عائلة المانسترلى باشا وزير الداخلية عام 1850، وأصلها من مدينة مانستر فى مقدونيا. وكان الشاعر يعمل بوزارة المعارف ثم تفرغ للأدب وكتب عددًا كبيرًا من الأغنيات إلى أن توفى عام 1962 دون أن تلتفت إليه وسائل الإعلام، ومن بين كل أغنياته بقيت «وحوى يا وحوى».
أما المطرب وهو أحمد عبدالقادر فلا أظن أن أحدًا يعرفه الآن، وقد شق طريقه إلى الغناء وهو ما زال طفلًا فى الثامنة فى حلقات الذكر بمصاحبة والده، وفى عام 1925 ظهرت الإذاعات الأهلية فى مصر على يد عدد من الهواة، كان منها «راديو فوزية»، وراديو «مصر الجديدة»، وفى الإسكندرية «محطة راديو فيولا»، وكانت معظم المحطات ضعيفة الإرسال تغطى بالكاد المنطقة، أما الإرسال الإذاعى كله فيتم بثه من داخل شقة صغيرة.
حينذاك قدم أحمد عبدالقادر أغنيته الشهيرة التى مر عليها نحو مائة عام «وحوى يا وحوى.. إياحة». وحين أنشأت الحكومة الإذاعة الرسمية عام 1934 كان أحمد عبدالقادر من أوائل المطربين الذين شاركوا بالغناء فى برامجها منذ الأسبوع الأول، ومن خلالها انتشرت أغنية «وحوى يا وحوى» فى مصر كلها. ولم يستطع عبدالقادر أن يبرز بين مطربى جيل الأربعينيات عبدالعزيز محمود وعبدالمطلب وكارم محمود وغيرهم، وعندما وافته المنية عام 1984 رحل فى صمت دون أن يشير إليه أحد، وبقيت منه نغمة تتردد إلى الآن «وحوى يا وحوى».
أما ملحن الأغنية فكان أسوأ حظًا من مؤلفها ومطربها، لأن أحدًا إلى الآن لا يستطيع أن يؤكد بالضبط من هو الملحن الذى قدم تلك الغنوة الجميلة. تشير بعض المراجع إلى اسم أحمد الشريف ملحنا، وتنوه أخرى باسم «محمود الشريف» بينما يذكر الإذاعى المعروف وجدى الحكيم أن المطرب أحمد عبدالقادر الذى غنى الأغنية هو نفسه الذى لحنها! وينطبق على الثلاثة الذين صنعوا الغنوة المثل المصرى الجميل «تفنى السواعد والعمل قاعد»، فقد رحلوا، ولا أحد يعرفهم الآن، لكن غنوتهم ما زالت تصدح وتدور وتصعد فى الفضاء بأصوات أطفال بعد أطفال.
وقد استغربت من طفولتى عبارة «وحوى يا وحوى.. إياحة» ولم أعرف مصدرها، ولا معناها، ثم تبين أنها مأخوذة من اسم الملكة إياح حتب التى عاشت فى نهاية الأسرة السابعة عشرة، وهى أم الملك أحمس، وهى التى شجعت زوجها الملك وأبناءها على طرد الهكسوس، حتى نجح أحمس فى ذلك. وقد سجلت لوحة فى الكرنك، من عهد أحمس، أن الملكة إياح حتب حشدت القوات دفاعًا عن طيبة ضد الهكسوس.
وتقديرًا لدور الملكة البطولى، خرج المصريون بالمشاعل وهم يهتفون لها: مرحبًا بالقمر السعيد: وحوى يا وحوى «مرحبا» إياحة «اسم الملكة الذى يعنى القمر السعيد». لا أحد يذكر الآن لا قصة الدفاع عن طيبة ولا ذلك الشاعر أو المطرب أو الملحن. اختفى كل أولئك وبقيت غنوة، كما سنختفى ولا يبقى منا سوى الأغنيات التى سنتركها يومًا عن العشق والوطن والأمل.