رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الاختلاف فى الرأى سنة كونية


لا بد من الإقرار بحقيقة أن الاختلاف سنة من سنن الكون، وأن التنوع إرادة الله فى كونه، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»، فالاعتراف بذلك بداية يجنب الإنسان الخوض فى صدام مع من يخالفونه الرأى، ويجعله يقبل التعايش معهم، حتى لو كانوا على النقيض منه تمامًا فى معتقده وأفكاره.
فلو أراد الله تعالى أن يخلقنا متشابهين إلى حد التطابق التام فى كل شىء لفعل، لكنه خلقنا مختلفين فى الشكل والطباع، وفى اللغة والاهتمام، وجعل لكل منّا صفاته التى تميزه عن الآخر شكلًا وموضوعًا، والهدف هو أن نتعارف ونتعايش، ونجبر نقص بعضنا البعض «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
ومع الإقرار بحقيقة الاختلاف بين البشر، إلا أنه تعالى لم يفرق بينهم إلا على أساس واحد هو «التقوى»، فالنبى يقول: «لا فرق بين عربى وأعجمى إلا بالتقوى»، وهذه من الصفات القلبية، حتى لا يمنح أحد لنفسه الأفضلية، لحسب، أو نسب، أو مظهر، أو علم، أو غنى، فالله تعالى وحده هو الذى يملك ذلك.
بل جعل الإسلام نفسية المسلم عند بدء الحوار فيها من التواضع وعدم التعالى مما يظهره فى غاية الحياد والموضوعية «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ..»، بل ويؤكد ضرورة أدب الحوار «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»، ويَنهى بشدة أن يتحول الحوار من أداة تعايش إلى أداة صراع « وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ».
وقد تختلف درجة الفهم فى المسألة الواحدة، تبعًا لوعى وإدراك كل شخص، دون انتقاص من فهم أحد، كما فى الواقعة الشهيرة، عندما كان الصحابة فى طريقهم إلى بنى قريظة، وقال لهم النبى: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يُصلينَّ العصر إلا فى بنى قُريظة»، فعندما قاربت الشمس على المغيب، انقسموا إلى قسمين.. قسم قال: الوقت ضاق ويجب أن نُصلَّى، بعد أن نظروا إلى المعنى المقصود وهو الإسراع فى السير لا حقيقة اللفظ، وقسم آخر قال: الصلاة فى بنى قريظة، متمسكين بظاهر خطاب النبى.
وعندما احتكموا فى الرأى بعدها إلى النبى صلى الله عليه وسلم تبسم، ولم يعنف أحدًا، وأقر الفريقين على اجتهادهما، هذا الذى أراد أن يصلى فى زمان الصلاة، والذى رأى أن يصلى فى مكان الصلاة، فلم ينكر على أحد منهما الأمر، حتى وإن كان خالف مقصده، وتقبل اجتهاده.
لذلك فإن تفسيق المخالف فى الرأى، إما دليل جهل بإرادة الله فى كونه أو لمرض فى القلب، الإمام مالك يقول: «إذا رأيتم الرجل يدافع عن الحق فيشتم ويسب فاعلم أنه معلول النية فالحق أقوى وأوضح من أن تفعل ذلك لإظهاره».