رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دينو بوتزاتى.. الشوق إلى الحقيقة


ما الذى ينبغى أن يفعله الفنان، أى فنان، حينما يشعر بأن التواصل بينه وبين الجمهور قد انقطع؟ حينما يستولى اليأس عليه أو الإحباط أو الشعور بعدم جدوى الإبداع وتنفتح أمامه على مصراعيها أبواب العزلة؟ هل يتوقف.. هل يعتزل.. أم يواصل دوره؟. يطرح الكاتب الإيطالى العظيم دينو بوتزاتى هذا السؤال فى قصته القصيرة المسماة «الخبر»، وفيها يتحدث عن مايسترو شهير يقود بحرارة السيمفونية الثامنة لبرامز فى دار الأوبرا.
المايسترو وعازفو الأوركسترا والنغم والجمهور والضوء والمقاعد والأنفاس تنبض مثل قلب واحد.. التواصل السحرى بين المايسترو والجمهور يسرى فى الجو مثل كهرباء خفية. لكن فجأة يغمغم أحدهم فى الصالة بخبر أن الأعداء يهاجمون روما، فيبدأ الجمهور واحدًا بعد الآخر فى مغادرة القاعة بهدوء. وحين يرهف المايسترو السمع من وراء كتفيه فلا يسمع سوى همهمات، ووقع خطوات متلصصة، وحركة مقاعد، وأصوات أبواب تفتح وتغلق. ينظر المايسترو بجانب عينه فيلاحظ ازدياد الأماكن الخالية، بينما كان المايسترو مقبلًا على تقديم الحركة الأخيرة من السيمفونية، الحركة التى يفترض أن تعزف بحماس جارف وفرح.
لكن خيط الإلهام السحرى انقطع فجأة بسبب ما حدث فى الصالة، وأخذ كل شىء فى الانهيار، داخل المايسترو وفى ما حوله، ولم تعد إشارات عصا القيادة تنقل إلى العازفين روح العمل. خيانة الجمهور كانت فجائية وصارمة وتركت المايسترو خاليًا من كل روح، وبلا معنى. إنه ما زال واقفًا على المنصة يعطى إشاراته.
لكن من دون أن يعبر عن شىء. قال المايسترو لنفسه: «هذا جمهور جبان». قالها ثم قدر أن الهلع قد استولى عليه هو ذاته وأنه فكر: «إلى أين أذهب لو أن الحرب اندلعت فعلًا؟ وإلى أين أرسل أسرتى؟ وما العمل فى الفيلا التى بنيتها لتوى؟ هل أهرب إلى خارج البلاد؟». سيطر الذعر على المايسترو والعازفين والجمهور فتمزقت خيوط الإلهام والإبداع. ما الذى كان ينبغى للفنان أن يفعله فى تلك اللحظة؟! أيهرب.. أم يواصل.. أم يعتزل؟.
أحيانًا كثيرة ينقطع خيط التواصل، ليس بين المايسترو والجمهور، بل بين الكاتب والقارئ، وبين المثقفين والناس، فتتوالى كلمات تشير إلى الأحداث وآراء ومواقف، لكن من دون إلهام، من دون إيمان، فاترة بلا حرارة. تقرأ النص فتجده مفهومًا واضحًا لكن شيئًا ما ينقصه. بهذا الصدد كان الناقد الروسى بيلينسكى يقول: «ليست الكلمة هى المهمة، المهم النبرة». هل أن الظروف السائدة هى التى تقود الكتاب إلى الإحباط والتوقف.. أم أنها قدرة الفنان الذاتية على المقاومة؟. يقول دينو بوتزاتى إنه لا بد للفنان من إيمان قوى بالحقيقة وبتأثيرها، ولا بد أن تقال الحقيقة بالفن فى أى ظرف، وهو إيمان يحتاج إلى تماسك إنسانى وأخلاقى فى مواجهة النفس، والآخرين، وفى مواجهة الشكوك فى جدوى الفن. يسأل الكاتب نفسه: لماذا أكتب؟ وما الذى يريده الناس من كتابه وفنانيه.. المتعة.. أم معرفة جزء ولو كان صغيرًا من الحقيقة؟ لكن أية حقيقة؟.
ألا تموت الثقافة والكتابة ما لم تستند إلى مد شعبى وإلى ظرف اجتماعى مواتٍ؟. يكتب الكتاب، ويرمون أوراقهم إلى الصحف كمن يرمى روحه وخلاصة عقله من النافذة إلى الشارع لتسقط على الأسفلت من دون صوت أو تأثير. هل أفاد أحدًا؟ هل ترك أثرًا؟. الكاتب هنا يصبح مثل شخص يمسك بوق السماعة ويتكلم وقتًا طويلًا إلى الفراغ والصمت، لأن الجمهور على الجانب الآخر قد غادر مقاعده، ولم تعد تسمع سوى همهمات المغادرين. يفكر مَن يكتبون: ومَن تلزمه الحقيقة؟ الجميع يعرفون الحقيقة. وأحيانًا يعرفونها أفضل بكثير ممن يكتبون عنها. يفكر البعض: الحقيقة لا تلزم أحدًا، وهذه هى الحقيقة الوحيدة. والكلمات فى نهاية الأمر مجرد حروف على ورق. مثل هذه الشكوك تنخر روح الفنان وتأكل كل شىء.
الكاتب فى النهاية شخص بمفرده. معلق فى فراغ من الهواجس، والمخاوف، والتردد. ومع ذلك تظل الحقيقة والرغبة فى إشهارها قوية وحارقة. لهذا أدرك المايسترو فى قصة دينو بوتزاتى وهو واقف على منصة المسرح، أن الخلاص الوحيد أمامه أن يستمر فى معزوفته حتى النهاية، لأن فى ذلك الاستمرار وحده نجاته هو ونجاة الآخرين أيضًا. وبذلك الإيمان انتفض المايسترو ورفع العصا الصغيرة وهو يلقى على أعضاء الأوركسترا نظرة حية ملهمة أعادت إلى القاعة سريان الحياة وردت إلى اللحن الخامد روحه. وتألق من جديد الشوق إلى الحقيقة والجمال، الشوق الذى لا ينبغى لنوره أن ينطفئ تحت أى ظرف.