رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اتِّفَاقٌ مَنْقُوصٌ

جريدة الدستور



لأولاد حارة الجبانة، طرق موروثة عن سابقيهم، وفى صيد العصافير لهم باع غير باعنا، فأعشاش الفروع العالية، ليس لهم ثقل عليها، أو على اعتلاء الأشجار أساسًا، أو صعود المداخن الطوبية الشاهقة لورش الطوب وبوابير الرى العملاقة، التى كانت تنفث دخانها فى سماء القرية قبل هجر الناس لهذه الورش، وانتهاء عصر تلك البوابير.
بيد كلَّ منهم غابة طويلة، يقولون: العصى لصيد عصافير النهار.
معنيون هم بأعشاش الفروع الواطئة، وبالأعشاش المدسوسة، وسط حِزم القش والحطب وقصب الأذرة، المجلوبة خصيصًا من الغيطان، لتكون سقوفًا للدور الواطئة، حيث تنام الحزم بانتظام فوق الأسطح وجدران الطين، مُبقية ما يعادل ثلثها بارزًا نحو الشوارع فى نسق مستقيم، استقامة العشب فوق جسور البساتين.
وتأتى العصافير البلهاء، لتكور أعشاشها بين الحزم، فيأتى أولاد حارة الجبانة، ليدسوا غاباتهم وسط كرات الأعشاش، بارمين إياها بإتقان، فتعلق الكرات بها، فإذا سحبوا الغابات لأسفل، أتتهم بالأعشاش عامرة بالرزق، وإلا عادت نفس الغابات، لتدس الخاوى منها بمكانه، لعلّ ساكنيه يسعون لإعماره لاحقًا.
وبين الحارات، لا شىء يجرى دون اتفاق.
يقول الولد أحمد، أحد قادة حارتنا: نحن فى حاجة لعقد اتفاق جديد، مع أولاد حارة الجبانة.
قلنا: لماذا؟
قال: أولاد حارة الجبانة، يمكنهم إعادة الأعشاش الخاوية إلى أماكنها وسط حزم العفش دون مشكلة، لكنهم يفشلون غالبًا فى إعادة أعشاش الفروع الواطئة إلى أماكنها السابقة، لذا فاحتمالات الخسائر بها أكثر من المكاسب، حيث نصفها- على الأقل- قد يحوى عصافير (حلال)، مريِّشة تصلح للأكل، أما نصفها الآخر، فيحوى عصافير (لحم) عديمة الريش، لا تصلح للأكل، أو تحوى بيضًا لم يفقس بعد، وفى كل الأحوال تصعب إعادة العش إلى مكمنه فوق الفرع، فيهمل البيض، وتموت عصافير اللحم، أو تسقط على الأرض، نهبًا لدهس الأقدام أو لأسنان القطط والكلاب.
أعاد كلام «أحمد» الحياة لحوارات سابقة دارت بيننا وبين أولاد حارة الجبانة حول ذات الموضوع.
قلنا لهم: خليكم فى أعشاش حزم العفش.
قالوا: كيف؟
قلنا: اتركوا لنا أعشاش الفروع الواطئة.
قالوا: تركنا لكم سابقًا الفروع العالية، وهناك مناطق كاملة، لا نقرب أشجارها أبدًا.
قلنا بإصرار: هكذا تكون القسمة الجديدة، لكم كل حزم العَفش، فوق الأسطح والجدر، ولنا الأشجار عاليها بواطئها مع مداخن الورش وبوابير الرى العملاقة، التى باتت مهجورة.
قال كبيرهم: لا مانع، فالباع مع الأشجار والمداخن باعكم قبلنا، وخبرتكم فى مجالها أكبر.
قلت مقلدًا الكبار: خلونا نقرأ الفاتحة.
ارتفعت الأكُف لأعلى، وارتفع صوت حافظى الفتحة بالآيات.
لم يمض من الوقت الكثير، حتى عادوا إلى سيرتهم القديمة، ليبقى اتفاقنا معهم منقوصًا، فلم يتركوا فرعًا واطئًا إلا وسحبوا أعشاشه، مجردينها من الصغار المريشة، تاركين كرات الأعشاش الأخرى منثورة هنا وهناك ببيض مكسور وصغار اللحم، نهبًا لعبث الأطفال الأصغر، وسدًا لجوع القطط والكلاب.
قلت: لنرد الأمر على كبيرهم.
قال كبيرهم: لا تخلو أية حارة، من فعل الصغار العابثين.
قال أحمد: لنؤدب العابثين.
قلت: مَن لا يحكم صغاره لاحكم له.
أشاح كبيرهم بيده منهيًا الكلام.
قلت لرفاق حارتنا: ما رأيكم فى الهجوم على أولاد حارة الجبانة؟
قال الرفاق: وماذا نفعل فى غاباتهم الطويلة؟
قلت: ولا يهمكم، سنلجأ لسلاح القذف بالطوب عن بُعد، فإذا حدث التحام، سنلجأ لسلاح الضرب بالجريد.
قالوا: ليكن.
من يومها، ونحن كلما لمحناهم أو لمحونا أوسَعْناهم ضربًا أو أوسعونا.