رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عم نتكلم حين نتحدث عن الحب؟


فى مجموعته الأشهر: «عم نتكلم حين نتحدث عن الحب؟» يطرح الكاتب الأمريكى الشهير ريموند كارفر السؤال العجيب، السهل، الصعب: ما الذى نقصده بالحب حين نتكلم عن الحب؟ ما هو هذا الحب؟ نحن جميعًا مولعون بالحديث عن تلك العاطفة، نكتب عنها وفيها الشعر، والروايات، والمسرحيات، ونرسم من وحيها اللوحات، وننام ونصحو على نور ذلك الشعور، ومع ذلك ما الذى نعنيه حقًا بالحب؟ ماذا نقصد به على وجه الدقة؟.
تجدد سؤال كارفر فى ذهنى بعد حديث هاتفى مع الصديق، الأديب الليبى عمر الككلى، قال لى خلاله إنه ترجم قصة اسمها «المهمة» من قصص ريموند كارفر.
طلبت منه أن أقرأها لأنى من عشاق كارفر، ١٩٣٨-١٩٨٨، الذى يعد أحد أساتذة القص الأمريكى الحديث، كما أنه عاش حياة غريبة شاقة عمل خلالها ساعيًا بالبريد وحارسًا ليليًا وعاملًا بمحطة وقود، وممرضًا فى مستشفى، وقادته حياته إلى إدمان الكحول، ثم أقلع عنه بقوة إرادته، وانعكست حياته تلك فى إبداعه فجسد فى قصصه الفقر وانسحاق البشر الصغار والآمال المحطمة والسكارى الضائعين وإحباط العاطلين عن العمل. نشر كارفر عدة مجموعات شعرية لم تلق اهتمامًا إلى أن تجلت موهبته فى القصة القصيرة بدءًا من مجموعته «ضع نفسك مكانى» ١٩٧٤، ومجموعته الثانية «هلا هدأت من فضلك» ١٩٧٦، إلى أن صدرت مجموعته «عمّ نتكلم حين نتحدث عن الحب؟ فى عام ١٩٨١، فجلبت عليه الشهرة ورسخت مكانته الأدبية كأحد ألمع كتاب القصة فى العالم. كارفر كان قد أبدى فى أكثر من مناسبة انبهاره بالكاتب الروسى أنطون تشيخوف، وقال إنه يشعر بالقرابة الروحية معه ووصفه بقوله:
«تشيخوف هو أعظم كاتب قصة قصيرة على مدى التاريخ». فى قصة «المهمة» التى ترجمها الصديق عمر الككلى يحاول كارفر أن يستحضر اللحظات الأخيرة من حياة أنطون تشيخوف حين ودع الحياة داخل مستشفى بألمانيا، وهى لحظة خاصة، بينما تعتمد قصص كارفر بشكل عام على كل ما هو اعتيادى ويومى فى الحياة، كالخلافات بين الأزواج، أو فصل شخص من وظيفته، أو حفل عرس، أو رجل يهجر عشيقته، أو حادث سيارة، لكنه ينفذ من سطح ما هو يومى واعتيادى ومكرر إلى الأسئلة التى تؤرق الإنسان فى كل مكان، وتتوهج قصصه بحيوية المشاهد التى لا تتوقف فيها الحركة، فهناك دائمًا حدث ما، وشخصيات تتحرك، وأناس يتشاجرون، بسبب نقاش أو مشكلة أو موقف ما. ومع أن لغة كارفر موجزة، إلا أنه يمنح كل لحظة وكل شخصية حقها من الوصف حتى تكاد الصور أن تنطق أمام القارئ.
أيضًا فإن ذلك القاص الكبير لا يلجأ لأى غرائبيات، أو إدهاش، مما يعشقه الكُتاب الشباب، ربما لأنه مثل كل كاتب حقيقى يعلم أن لا شيئًا أكثر إدهاشًا من الحياة نفسها، وأن دور الكاتب هو اكتشاف المدهش فى الحياة، وليس اختراع الغرائبيات. يقول كارفر عن قصصه: «فى القصة أحب أن يكون هناك خطر ما غير ملموس، يطوف حولنا.. لا بد أن يكون هناك توتر فى الهواء». هناك هذا التوتر، والأرق الذى يصاحب حياة شاقة وموهبة كبيرة. فى قصته البديعة «عم نتكلم حين نتحدث عن الحب؟»، يطرح كارفر السؤال السهل، الصعب: ما الذى نقصده بالحب؟ من خلال عشاء يجمع رجلين وامرأتين يقودهم الحديث إلى محاولة تعريف تلك العاطفة، فيقول أحدهم إن الحب ليس سوى الحب الروحانى.
وتقول امرأة إن زوجها السابق أحبها إلى درجة أنه أراد قتلها، وتُعقب على ذلك بأنه مهما كانت غرابة الموقف فقد كان زوجها ذلك يحبها بطريقته الخاصة! ويعدد أحدهم للجميع أنواع الحب حسب اعتقاده: البدنى، والعاطفى، وهناك حب الإنسان لذاته متجسدًا فى حبه الآخر، وحب الاعتياد والألفة، ثم يضرب مثالًا بزوجين عجوزين فى مستشفى، وكان الزوج راقدًا فى جبس من أعلاه إلى أسفله، ويضيف: وحين اقتربت من الرجل العجوز لأسمع ما يقوله من خلال ثقب فى الجبس قال لى إن سبب تعاسته ليس المرض، لكن أنه لا يستطيع أن يرى زوجته الراقدة بجواره من خلال ثقوب الجبس. ويترك رايموند كارفر السؤال «ما هو الحب؟» بدون إجابة كعادته فى قصصه ذات النهايات المفتوحة. ويترك لنا التفكير فى الإجابة لعلنا نفهم فى النهاية أن الحب حالة تقع دائمًا بشكل مختلف، وأن ذلك الشعور المسمى الحب يتبدل ويتغير مهما كانت ملايين المرات التى يحدث فيها.