رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد العسيرى يكتب: بشاير «برمهات» فى غرب المنيا


لا يسعدنى شىء فى الوجود بقدر السعادة التى تغمرنى وأنا أشاهد زرعًا جديدًا ينبت فى أى حتة من أرض مصر.. علاقتى بالأرض قدرية.. رغم أن سنوات عمرى التى مارست فيها الزراعة طفلًا لا تزيد على العشر.. خطفتنا بعدها المدارس والتعليم والغربة والترحال من بلد لبلد.. وظلت علاقتى بالزراعة فى المواسم التى نذهب إليها كلما سمحت الظروف.

فى هذه الأيام من كل عام.. يعرف المصريون.. أنه موسم الحصاد.. الذى ارتبط فى وجداننا بعوالم خفية أسطورية ساحرة.. الحصاد يعنى الفرح.. يعنى موسم الزواج عند الريفيين.. يعنى فرحة المنتظرين لشهور.. لدرجة أن بعض المؤرخين يقولون إن المصرى القديم لم يكن يعرف معنى «المال» سوى فى موسم الحصاد.. فهو طول السنة لا يشترى ولا بيع إلا أقل الضرورات.. وكل أكله وشربه من غيطه.. أما لبسه- ملابسه يعنى باختصار- كان يأتى فى موسم الحصاد والأعياد.. جلابية كستور فى الشتا.. وجلابية دبلان فى الصيف.

عشقى اللا محدود للزراعة والمزارعين وعالمهم.. جعلنى أقرب بالمهووس الذى يبحث بشغف عن أى خبر أو صورة أو قصة أو حكاية من هذا العالم.. ومنذ شهور وأنا أتابع ما يحدث فى «غرب المنيا» إحدى مناطق مشروع المليون ونصف المليون فدان.

هذا الأسبوع ذهب وزير الزراعة ليستكشف بشاير موسم حصاد القمح.. لأول مرة فى هذه الأرض الجديدة التى ستضاف للرقعة الزراعية التى ظلمناها وبهدلناها بمصانع الطوب الأحمر.. تلك التى سطونا على أكثر من نصفها لنبنى بيوتا بالمسلح.
زيارة الوزير عزالدين أبوستيت لتلك الأرض بالنسبة لى ليست زيارة روتينية لمسئول فى الحكومة إلى موقع عمل، لكنها بداية قصة جديدة يخوضها الفلاح المصرى.. قصة تضاف إلى قصصه القديمة فى مقاومة الجوع والقهر وقلة الحيلة.. بأيدينا فقط نستطيع أن نصنع يومنا وغدنا.. واللى «قوته» مش من إيده.. لن يخرج صوته من حنجرته.. وعمر كلمته ماحتكون من رأسه.
سنابل القمح الخضراء التى رأيناها فى تلك الزيارة.. لم أذهب إلى هناك بعد وإن كنت أتمنى ذلك.. عبر شاشات الفضائيات تقول إن الفلاح المصرى والمهندس الزراعى المصرى قادران على صنع المستحيل إذا ما وجدا المناخ الملائم والفرصة المواتية.
فى الوقت نفسه كان مستثمر عربى يعلن أن إحدى مزارعه فى الإسماعيلية تنتج الآن كل أنواع التمور.. المصرية والسعودية.. وما أدراك ما تعنيه «النخلة» فى التراث والحضارة المصرية.. تلك النخلات الجديدة التى نغرسها على ضفتى النهر ليست مجرد شجرة تطرح بلحًا جنيًا.. لكنه النخيل المصرى الذى لا يعرفه الأغنياء.. هو نخيل مصرى أبًا عن جد.. «مش شارب من مية النيل».. هذا العناد.. هذه القدرة على استفزاز طين الأرض لينتج لنا مجددًا.. قمحًا وتمرًا.. هى إشارة مرور خضراء لأيام نتمنى أن تكون أفضل بسواعدنا وسواعد أولادنا.. هى أيامهم التى لا نريد لها أن تكون مثل أيام زرقاء مضت فقدنا فيها قدرتنا على المبادرة وعلى الحلم.
نعم.. هو حلم.. والواقع.. والتاريخ والجغرافيا تقول إننا قادرون على تحقيقه.
الواقع نفسه يقول إن العالم كله فى السنوات القادمة.. سيعانى من أزمة «جوع».. من نقص فى الغذاء.. لكنه يخبرنا أيضًا أننا نملك خريطة غير محدودة من «النباتات».. وأننا نعيش فى مناخ يسمح بآلاف الأنواع من الزراعات.. وأننا أصحاب خبرة تعلمناها من طين الأرض.. لكننا أيضًا مطالبون بمحاربة مافيا الاستيراد.. وأباطرة التقاوى.. وأسطوات النهب والتهليب على حساب الأرض والفلاح الذى يبيعونه مبيدات مغشوشة أكلت حيله وماله وأرضه.
بشاير «برمهات» القادمة من المنيا تجبرنا على تعامل مختلف وجديد وواقعى مع واقع الفلاحين فى مصر.. الفلاحون هم أصل أى حضارة.. وأصل أى بناء.. من أياديهم المعروقة ينبت المستقبل.. فلا أقل من أن تنظر إليهم بما يليق بهم.
أتمنى أن ينظر نواب البرلمان إلى المشروع القديم الذى كان يقضى بالتأمين الصحى الشامل للفلاحين.. أتمنى من المهتمين والمنتمين لعالم التعاونيات أن يتركوا طريقة عملهم التقليدية والبحث عن «أفق جديد» للتعامل مع الواقع الذى نعيشه.. أتمنى على الذين ينتمون لعالم النقابات، التى تزعم أنها تهتم بالفلاح، أن يكتفوا بما نهبوه فى السنوات الماضية باسم الفلاحين وعلى «قفاهم» وأن تصير نقاباتهم «نقابات الفلاحين» قولًا وفعلًا.
«سيرة الخير» التى فتحتها بمناسبة «إطلاق موسم الحصاد» فى «غرب المنيا» لا تنتهى عند هذا الحد.. بل تتعداه إلى ضرورة هيكلة كل قطاعات وزارة الزراعة بما يجعلها قادرة على التحدى الجديد.
نحن فى عالم جديد.. لا يعترف بغير العلم.. بغير التكنولوجيا.. بالإبداع.. وما أعرفه جيدًا أن لدينا عشرات الآلاف من العلماء والمبدعين فى مجالات الزراعة أصبح أمر الاستفادة منهم ومن خبراتهم وعلومهم الآن وليس غدًا فرض عين.. فهل نفعلها.. أتصور أننا قادرون.