رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاطف أبوسيف.. لا يتعلم الأدباء بتكسير ضلوعهم


منذ أيام قلائل تربصت مجموعة من ميليشيات حماس فى غزة، بالأديب الفلسطينى المعروف الدكتور عاطف أبوسيف تترقب خروجه من منزله، وما إن خرج حتى طوقته وانهالت عليه ضربًا بماسورة حديدية حتى حطمت ضلوعه وأطرافه، ثم تركته ملقى بين الحياة والموت.
أبوسيف الذى تجاوز الأربعين، أديب معروف صدرت له أربع روايات ومجموعة قصصية، حاصل على ماجستير من إنجلترا ثم دكتوراه من جامعة فلورنسا، وفاز فى العام الماضى بجائزة كتارا عن روايته «قارب من يافا». لكن منظمة حماس التى تصدت بأعنف الوسائل للمتظاهرين المحتجين فى غزة على ازدياد الضرائب والغلاء والبطالة والفشل السياسى والوطنى، ساءها أن يكون عاطف أبوسيف متحدثًا باسم حركة فتح فى غزة، فقررت أن تعاقبه، وأن تلقنه درسًا بتحطيم ضلوعه، لعله يقلع عن الأدب والروايات والشعر وحب الوطن. لكن منذ متى يتعلم الأدباء بتكسير ضلوعهم أو اعتقالهم أو مطاردتهم؟، ومنذ متى أقلع الأدباء عن حرفة التعبير عن الحياة تحت وطأة الهراوات؟. لقد قضى الأديب الروسى الكبير سولجينتسين ثمانية أعوام فى صقيع المعتقلات بسيبيريا ولم ينكسر، وخرج على العالم برواياته التى يفضح فيها القسوة والجلافة، قابضًا بيده على زهرة التعبير والحرية. وقضى الروائى الفرنسى هنرى شاريير ثلاثة عشر عامًا فى السجن، ولم يتحطم، ولا انكسر القلم فى يده، وخرج على العالم بروايته الرائعة «الفراشة»، وقضى الروائى الصينى «زانج كزليانج» اثنين وعشرين عامًا كاملة وراء القضبان، وفى معسكرات التأهيل فترة حكم ماوتسى تونج، ولم ينكسر، وقدم للعالم روايته الجميلة «نصف الرجل امرأة»، وحطم فيها المقدسات السياسية الصينية. لم يتعلم الأدباء قط من السجون والمعتقلات والمصادرة والمنع سوى درس واحد: الاستمرار بالأدب الذى هو أقوى من كل شىء. وتحطيم ضلوع الروائى الفلسطينى عاطف أبوسيف، صفحة أخرى من سعى القوى الغاشمة الجهول لكسر ما لا ينكسر. وعلى مدى التاريخ البشرى كانت الدول والنظم الحاكمة تعادى المثقفين، لأن هناك تناقضًا قويًا بين الطرفين بحكم طبيعة كل طرف، فالدولة هى الاستقرار، والمثقف هو الرغبة فى التغيير، والدولة هى الاطمئنان إلى الواقع والمثقف حلم بواقع آخر، وخلال ذلك الصراع لم يحدث قط أن مثقفًا أعدم دولة، أو نظامًا حاكمًا، أما الدولة والسلطة– حتى لو كانت رمزية مثل سلطة حماس- فقامت دومًا بمطاردة المثقفين وصولًا إلى تحطيم أضلاعهم بمواسير حديدية ليتعلموا الدرس. وما قامت به ميليشيات حماس، يكشف فقط عن أزمة حماس التى كفت عن العمليات الكفاحية من زمن، وتخيرت ألا تواجه الاحتلال، ومن ثم لم يعد أمامها سوى مواجهة الشعب الفلسطينى الذى خرج فى غزة بمظاهرات يتداخل فيها العاملان الاقتصادى والسياسى، بعد أن وجد الفلسطينيون أنفسهم محاصرين بين حماس فى غزة، وفتح فى الضفة، ومحاصرين بمنظمات كشفت عن أن السلطة- وليس تحرير الوطن- أصبحت همّها الرئيسى. هناك أزمة عامة فى غزة الخاضعة بالكامل للسيطرة الإسرائيلية على الجو والبحر ومصادر الكهرباء والطاقة والماء والسلع والمعابر والحدود، لكن حماس تسلك فى الأزمة بطريقتها التى تعبر بها عن أصولها الإخوانية، بعد أن تخلت عن الكفاح المسلح. وحينما بدأت حماس حركتها عام ١٩٨٧، تعاطف الكثيرون معها وأنا منهم، بفضل برنامجها الذى دعا حينذاك إلى رفض طريق التسوية وثمارها المُرّة، ومن ضمنها سلطة الحكم الذاتى التى اعتبرتها حماس فى مواثيقها مجرد إفراز لاتفاقيات التعايش مع العدو. لكن حماس انتقلت مع الوقت والحصار، إلى الاكتفاء بحكم رمزى فى ظل شروط الاحتلال الكاملة، ولم تعد قادرة على الاستجابة لمتطلبات التحرر الوطنى، ولا حتى قادرة على تحسين حياة المواطنين، وفى ظل أزمتها تلك أصبح عليها أن تواجه الشعب الفلسطينى فى غزة ولو بسفك الدماء وضرب الأدباء بمواسير حديدية. لكن الأدباء لم يتعلموا هذا الدرس الدنىء قط، لا عاطف أبوسيف، ولا سميح القاسم الذى سجن عدة مرات، ولا يوسف إدريس، ولا عبدالرحمن الشرقاوى، ولا غيرهم. يمكنك أن تحطم ضلوع الأدباء، لكنك لن تحطم أقلامهم ولا أحلامهم أبدًا، لا بالضرب، ولا بالسجن، ولا بالمنع، ولا بالمصادرة.